كومة صور ممزّقة

كومة صور ممزّقة

لا شيء يعنيك، لا تستثيرك تفاصيل الحاضر، وكأنك تشاهد فيلماً صامتاً عن الفراغ، ولا تجيب بأكثر من كلماتٍ مقتضبة وموجزة حذر الوقوع في فخٍّ اسمه: كلُّ شيء سيكون على ما يرام.


تبتسم، ترتشف قهوتك، ثمّ تمضي في الشوارع المزدحمة مرتبكاً في رهبة الأسئلة المعتمة. تصل إلى بيتكَ، تشعل الضوء، تخلع ثياب عريّك وتتدثّر بلامبالاة أشدَّ عرياً. تقابل التلفاز، تتناول طعامك أمام خبرٍ عاجلٍ، تمضغه بفكٍّ مرتخٍ وعينٍ زائغة بما لا يتفق وحرارة الدم النازف من جبين طفل يشبهك!


لا شيء يعنيك وأن توغل في تفاصيل حياتك اليوميّة، ترتب أشياءك، مواعيدكَ، حزمة أحلامكَ الخاصة، تفكّر بالمستقبل مع زوجة جميلة وأربعة أطفالٍ وفواتير لا تنتهي، قبل أن تلقي كلّ هذه الأحلام المريبة  تحت سريرك وتغمض عينيك آمناً مطمئناً كوجه إجابتك الساذجة: كلّ شيء سيكون على ما يرام.


عن الوطن تجيب في وقتٍ ينشغل فيه الوطن بفض بكارته بأدواتٍ حادّة لا تصلح أن تكون إجاباتٍ عنك، وطنٍ يقترف افتضاض عذريته أمامك ليزيدك إحساساً بالعجز. تفكّر أن تثور عليه وأن تفض بجوابٍ مُستفزِّ بكارة السؤال: لماذا؟!


لكنك تستسلم لعجزك، تبدو أكثر تصالحاً مع كونك قد أصبحت عاجزاً مكتفياً بأيّ سؤال يرضي نزوة الوطن الشّبقِ.


لا شيء يعنيكَ، وكأنك استقلت من فكرة الأوطان، واستسخفت أن يموت أحدُ ما في سبيل فكرة ضيقَة لا تصلح لممارسة لذة التأويل كالوطن.


توغل لأوّل مرة بعيداً عن لامبالاتك، تتساءل بقلق سجين في زنزانة التعذيب: ما الوطن؟ أية كلمة  تلك الّتي تستحق أن يصطبغ بها جدار بالدم و«خثرات» قاتمة كذكريات مؤلمة؟ أية كلمة تستحق أن تسمع صدى صرخات المعذّبين في الأقبية وتفكّر بالحياة والموت قبل أن  تستلم لبرودة البلاط تحت قدميك العاريتين؟  ثم تمضي في الفكرة أكثر: ما الذي سيقدمه الوطن لي؟ وسام شرفٍ؟ ذاكرة بيضاء؟ اسم شارعٍ؟ مدرسة؟ حديقة؟ مدينة؟ ما الذي سيقدمه الوطن لأبنائك إذا لم يجدوا جسدك  ودفنوا شيئاً من ثيابك في التراب لتنمو ذاكرتهم العظامية على عصاميّة فظّة؟


لا شيء يعنيك، وكأنك للمرّة الأولى تستقيل من الحاضر تماماً، تنفصل عنه وتقبع في زاويةٍ مهملةٍ من زوايا ماضٍ لا يراه أحدُ سواكَ، تنزوي في داخلك، تتكدس عليك، وتسأل نفسكَ: من الأجدر بالحياة أنا أم الوطن؟


وتجيب: أنتَ... أنتَ!. لكنّ الصدى يجيء بخلاف توقعاتك: الوطن... الوطن!


ثم تهمل الإجابة، تغتسل من محاولتك الفاشلة في الاستمناء على جسد الفكرة، ثم تغفو على صورةَ عتيقةٍ لجسدِ امرأة بالأبيض والأسود!


لا شيء يعنيك في الحاضر، كل شيء سيكون على ما يرام، وتعرف جيّداً أنّ للحنين دوره الذي يغفل عنه كثير غير؛ ذلك الحنين الذي يكبر حدّ تصوير تفاصيله أكبر مما هي عليه في الحقيقة، وأقرب من أن تراها جيداً، تصبح جزءاً مما تحنّ إليه!


هو الحنين، يغربل الوطنَ، يحفظ ما يستحقُ أن يُحفظ مثالياً ومقدّساً ويذرو قشه بلفحة حانيةٍ. هو الحنين يصور لك البلد وجه أمَّ وصبر أبٍ وأخوة، ويمدّ لك من الذكريات دروباً ومقاهٍ وحدائق ومدارس ومدناً متآلفة. هو الحنين يصور لك البلد جميلاً كما يجب أن يكون، تتمناه كما تراه في ذاكرتك، وترفض قبح من قبّحه. هو الحنين إلى البلد يصوّر البلد دنيا، وإن متَ، وإن زادت صرخات المعذّبين وتجمّدت أطرافك، وإن متَّ وإن صار الوطن جسداً تحت كومة صورٍ ممزقة.


 يصير أعظم من فكرة تقاتل في سبيلها، تصيران أنت والوطن الفكرة!

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +