الرّفس الإمبراطوري!

الرّفس الإمبراطوري!

مفهومُ الشخصية الزائدة في الأدب الروسي التي عمّمها تورجينيف في كتابه «الإنسان الزائد»، والذي انتشر كمفهوم أدبي للرجل الذي يمتلك ما يكفي من المواهب والتعليم و«الثروة»، ويفتقد الهدف والقضية ويضيع في شهواته ونزواته وحياته العدمية، ربما يتطابقُ مع نموذج روسيا نفسها اليوم، فهي بلدٌ متعافٍ ظاهرياً بعد أن لملم جراح هيبته إثرَ سقوط الاتحاد السوفييتي، وعندما شم رائحة إبطه كما يقول المثل الشعبي، عاد الى الطريقة الوحيدة التي يتقنها البشر في حل مشاكلهم بعد أن يشبعوا، الرفس. الرفسُ الامبراطوري الذي مارسته كل أمّة خلت عبر هذا التاريخ الذي يبدو طويلاً، بسبب الرفس الذي تعرضت له الإنسانية من حوافر الامبراطوريات.


ليسَ كل عاشق للأدب الروسي شيوعياً، ولكن كل شيوعيٍ عاشقٌ للأدب الروسي. مقايسةٌ بسيطة بدائية تلمّع نفسها دون الحاجة إلى كثيرٍ من البراهين المنطقية المعقدة، إذ تمثّل روسيا بالنسبة لنا نحن جيل مواليد أواسط الثمانينيات أشباحاً قديمة عن كومونات ولجان حزبية ومكاتب سياسية ومحاربة للإقطاع وإصلاح زراعي وستالين وتروتسكي، «وجورج حبش، يا للمفارقة». وهي كلها رموز وكلمات لا تشبهنا، ولا تنتمي إلى عصرنا الذي منّ علينا أن تشكل وعينا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، فعلياً، ولكن الجميل لدى اليسار العربي والحمصي، أن الاتحاد السوفييتي لم يسقط في حمص بعد.


هل يمكن أن تعشق تشيخوف إذا لم تكن يسارياً؟ طبعاً كان لا بد من بداية الألفية لنقتنع أنه بإمكانك أن تقرأ تشيخوف «حاف» من غير التراث البلشفي كله. تشيخوف الكاتب الدرامي الذي يشبه سيناريست عصره بذلك النفس الإنساني الهائل الذي يشبه إيحاءات الكتب المقدسة، نعم كانت طأطأةُ رأس الخادمة أمام سيدها الذي ادعى أنه سيفصلها دون سبب، واستسلمت له دون قتال أو دفاع عن نفسها، صرخةَ تشيخوف لتقوم الطبقات المسحوقة بالدفاع عن نفسها، ولكن هذا يأتي في مستوى التلقي العاشر بالنسبة لعاشقٍ للمسرح، وباحثٍ عن الخير في كواليسه. بالنسبة لمؤمن بالإنسان وبكرامته، كانت الخادمة خادمةً ضعيفة وفقط، بالنسبة إليّ على الأقل.


كان عزيز رحمه الله يبكي من كل قلبه المعلول عندما يُنهي القصة التي كان يتفادى قراءتها أكثر من مرة في السنة. كيف لتلك السيدة الرائعة أن تقوم بكذا وكذا وكذا وكذا، ثم ينهي القاتل تشيخوف الحكاية بكلمة «ثم ماتت». كان علينا أن نتحمل بكاء عزيز الذئبي ليلاً لأسبوعٍ كاملٍ بعد أن يقرأ هذه القصة، لم تكن قصةً عن فراغ الحياة الإنسانية وعن سجن الإنسان في شرطه البشري الذاهب باتجاه الفناء، كانت عذاباً لقارئٍ أحب الشخصية وتماهى بها، وبكى عليها لأنها ماتت.


هكذا كنا نرى إلى روسيا، عندما رفست الأم نزار شاغاتايف الطفل في رائعة بلاتونوف «الأشباح» ليذهب إلى موسكو ويترك هذه الصحراء القاحلة، ويتركها لتموت بهدوء، كنتُ أبكي على أمٍّ ترفس ابنها ليعيش، وتدفعُ نفسها في نفق الموت، هكذا كانت روسيا يوماً ما. أمّا دوستوفسكي«امينيم» ذلك العصر، فقد أورثنا عقدهُ الكبيرةَ علينا كأطفال، وكان عليَّ في عمر العاشرة أن أتساءل وأتشظى في سريري كلما لمعت في رأسي فأسُ البطل في رأسِ العجوز المرابية التي قتلها، كانت روسيا تعني شدَّ الأعصاب والإيمان بالخير والمعاناة من قسوة الثلج في سوريا المعتدلة مناخياً، كانت حياةً موازية لحياتنا، كانت وهماً ثلجياً بارداً ذوَّبته الشمس، ولكن الثلج الذائب لم يصل بعد إلى مؤخرات اليسار العربي، وسيصل.


هكذا كانت روسيا بالنسبة إلينا في يومٍ ما، ولكن الزمن قادر على تعليمك الحقيقة ودائماً بالطريقة الصعبة، روسيا كفرنسا وبريطانيا وألمانيا، بلادٌ فردية، فيها أفراد نجباءُ ولامعون، والبقية مثلنا كدولٍ وأفراد، أناسٌ عاديون لا يمكنهم أن يلمعوا سوى برفس الآخرين.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +