تراث العدالة الروسيّ

تراث العدالة الروسيّ

لا يمكنني أن أعرف على وجه الدقة ما الذي تعنيه روسيا لمن أهم أصغر مني سناً، أعني الذين ولدوا في سوريا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، في بيوت لا تملأ رفوفها كتب دارَيّ «التقدم» و«رادوغا». أما مواليد السبعينات والثمانينات في سوريا، فإن لكثيرٍ منهم ذكرياتٍ حارة مع «الأم روسيا»، مع أدبائها ودور نشرها وانتصاراتها على النازية، مع أدب الأطفال الروسي الباهر على وجه الخصوص.


أتذكرُ كتيباتٍ ملونة تحمل اسم «حكايات الجاهل»، فيها الجاهل وأصدقاؤه «الذاهل وعسى ولعل» وكلبتهم «قرقرة»، كانت تأتي هذه الكتيبات من دار «رادوغا» في موسكو باللغة العربية، وفيها حكايات عن المشكلات التي يتسبب بها جهل «الجاهل» وذهول «الذاهل» والركون الدائم إلى كلمتي «عسى» و«لعل».


أتذكر في مرحلة لاحقة من عمري مؤلفات مكسيم غوركي وتشيخوف وديوستفسكي وغيرهم من أدباء روسيا العمالقة، وعشرات الكتب الصغيرة والمتوسطة عن حرب الروس المجيدة ضد النازية، عن ستالينغراد ومعارك غابات سيفيستوبول.


كانت روسيا ترتسم في لاوعيي بوصفها حارس العدالة، والمجد أيضاً.


لم تكن تشغل بالنا مطامح روسيا الامبراطورية، كان عدونا دائماً هناك في الغرب، وكان صديقنا هو الدب الروسي الجميل الذي ألحق الهزيمة بالنازية، ويواصل كفاحه وحروبه لإلحاق الهزيمة بالامبريالية. كانت أغنية الجيش الأحمر الروسي، كاتيوشا، أغنيةً للحرية.


الجيش الروسي نفسه، البطل الذي ردّ النازية على أعقابها حسب ما تختزنه ذاكرتنا من أساطير وحكايات، يصب حممه على رؤوس السوريين اليوم. ليست المسألة عاطفية هنا على الإطلاق، ثمة وقائع لا مجال للتحايل عليها، فالجيش نفسه الذي يعيش في ذاكرتي بوصفه جيشاً نبيلاً يرد الغزاة على أعقابهم، يتصرف بنذالة في سوريا، يستهدف المدنيين لإخضاعهم، ويهاجم المستشفيات، ويؤمن الغطاء الكامل لنظام فاشيٍ. كما أن القيادة السياسية لهذا الجيش تراوغ وتكذب، وتعمل بكل ما أوتيت من قوة على ألحاق الهزيمة بكل ما من شأنه أن يجعل الحياة في هذه البلاد أفضل.


إنه العدو الروسي إذن، وليس ثمة عبارة أخرى يمكن أن تفي الجيش الروسي وقيادته حقهم بالنسبة لي، جيش يرتكب المذابح في بلادي ويسعى عامداً للخلط بين الثوار السوريين وتنظيم الدولة، بهدف سحق الأوائل، وابتزاز العالم من خلال الثاني.


ولكن ماذا عن حَمَلَة الجنسية الروسية، ماذا عن التراث الروسي العظيم، عن حكايات الجاهل، وكتب دارَيّ «التقدم» و«رادوغا»؟ ماذا عن ذاكرتنا التي تساهم في تحطيمها طائرات الجيش الروسي؟


ثمة صورة لن تفارقني ما حييت في كتاب «ضمائر حية»، وهو كتاب توثيقي روائي من تأليف «بيوتر فيرشيغورا» أحد أبطال الحرب العالمية الثانية. لقد تعرفوا على جثمان رفيقهم في غابات سيفستوبول بعد سنوات طويلة من الحرب من خلال شاربيه الكبيرين المفتولين، اللذين كانا لا يزالان ملتصقان بالجمجمة الضخمة.


ترى هل سنتمكن من التعرّف على جثمان تراث العدالة والمجد الروسي بعد سنوات طويلة من الآن، وهل سيكون على جمجمته الضخمة ما يشير إليه حقاً؟

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +