ما العمل؟!

ما العمل؟!

كنتُ في السابعةِ ربما حينَ أُصبتُ بشيء يُشبهُ الحمّى القُلاعية، أتذكّرُ انتفاخَ شفتيّ وامتلاءهما ببثورٍ ضخمة، مؤلمةٍ وبشعة. وككلّ طفلٍ كنتُ أنتظرُ دائماً هدايا الزوّار الذين يأتونَ لعيادتي. لم تكن كثيرةً على أيّ حال، لكنّني أتذكّرُ أنّهُ وبسبب تلكَ الوعكة كنتُ قد أُهديتُ أوّلَ كتابٍ في حياتي، أهداني إياهُ صديقُ شقيقي الأكبر، وكانَ قصةً لكاتبٍ روسيّ لم أعد أذكرُ اسمَهُ الآن، لكنّ اسمَهُ كانَ «الرسالة»، ولا أذكرُ من تلكَ الرسالةِ سوى أنّها كانت قد أُرسِلت من قبلِ جنديّ روسيّ يُدعى «بانتِلييف» في حربٍ ما (ولا أتذكّرُ أيّ حربٍ، فحروبُ الروسِ كثيرةٌ كما سأعرفُ لاحقًا).


بدأتُ قراءتي في ذلكَ العمر، مع جنديّ روسيّ يُدعى بانتِلييف إذاً. ولشدّةِ تعلّقي بالكتابِ، ككتابٍ أول يُهدى إليّ، ظللتُ أقرأُهُ حتى وصلتُ للمرحلةِ الإعدادية ربما! إلى أن اكتشفتُ أنّ في بيتِنا مكتبة، أيّ أنّ هذا الشيء الضخمَ الذي يأخذُ مساحةً كبيرةً من البيتِ، كانت لهُ مهمات أخرى سوى أن نضعَ عليهِ آنيةً للزينةِ وما شابه!.


ما سأعرفُهُ لاحقًا أنّ نوعيّة الكتبِ في المكتبة تلك، لم تخضع للشرطِ الإبداعيّ تماماً بقدر خضوعها لشرطِ معاداة الإمبريالية، واحتفاظِها بما يؤكّدُ ميولَها الماركسية. فهناكَ اجتمعَت كتبُ «الاتحادِ السوفييتي» وكتّابُهُ، في مشهدٍ متكررٍ في كلّ مكتباتِ الماركسيين الذينَ عرفتهم في مدينتي. هناكَ يجلسُ فلاديمير إيليتش أوليانوف «لينين» وسؤالهُ الذهبيّ: ما العمل؟!. كارل ماركس ورأسُ مالهِ، غوغول ومعطفه، بوشكين وقصائده التي ترتدي ربطةَ عنقٍ تليقُ بقصورِ القياصرة، ماكسيم غوركي وأمّه. ميخائيل شولوخوف برفقةِ الـ دون الهادئ، يجلسُ المارشال غريتشكو ليروي ملحمة القفقاس، إلى جانبِهِ يقفُ ياكوف بيرلمان مع فيزيائه المسلّية، وفي الجوارِ بولغاكوف صحبةَ قلبِ الكلب. كلّ هؤلاء في مكتبةٍ واحدةٍ مع ألكسي تولستوي وآخماتوفا وتشيخوف وليو تولستوي....إلخ.


وفي ذلكَ الحين كنّا إذا أردنا الانصرافَ عن المكتبةِ إلى الموسيقى، يُطلّ علينا تشايكوفسكي، وإذا أردنا الانصرافَ عن الموسيقا للتاريخ، نجدُ تاريخًا محصورًا في غالبيّته بسنواتِ الحكمِ السوفييتي، كذا في السياسة، ناهيكَ عن ذلكَ الاستلاب الذي يصيبُ كلّ أفرادِ البيت إذا أعادَت إحدى القنوات التلفزيونية بثّ مباريات الجمباز في الألعابِ الأولمبية حيثُ تطلّ الفراشة «ناديا كومنتشي» برشاقتِها السحرية وابتسامتِها الخجولة. وإذا صودفَ وجاءت سيرةُ كرةِ القدم «أيام الزمن الجميل»، سيرنُّ اسمُ حارس المرمى السوفييتي العظيم «داساييف».


هكذا عرفتُ روسيا طفلًا، وظلّ الأمرُ على حالِهِ حتى مرحلةٍ متأخرة، وظلّ اسمُها يرنُّ بساحاتها الحمراء، ومجلس الدوما، ولينينغراد، وستالينغراد، ويوري أندروبوف الذي أهدانا في زمنٍ ما أسلحةً كانت كفيلةً بأن تُصاغَ لهُ بسببها في مدينتي أغنيةٌ شعبية فريدة:


أَندَرْ بَعَثْ هَديّة ... عيني يا نايفة


أسلحة سوفييتية ... يا حلوة ليش خايفة


فيها نعزز صمودنا ... عيني يا نايفة


ونقضي عالصهيونية ... يا حلوة ليش خايفة!


نعم، لقد قوبلت روسيا الاتحادية، ومن قبلِها الاتحادُ السوفييتي، بفنون مناصرة لهما تقومُ على قدرٍ لا يُطاقُ من السذاجة!


لكنّ كلّ ما تقدّم، مصحوبًا بالعدوانِ الروسيّ على بلادِنا والمساهمة في قتلِ أهلِنا، لا يمنعُ من السؤالِ ما إذا كان الاطّلاعُ على نتاجِ الروسِ في شتّى المجالات عملًا مخطئًا؟


لم تكن مشكلةُ مكتبتنا وذاكرتنا أنّهما بُنيتا على تلك الأسماء، بل كانت المشكلةُ في أنّهما خلتا من أسماء الآخرين، تلكَ المشكلةُ العويصةُ الدائمة، مشكلتُنا مع النظامِ السوريّ نفسه!


ليس من الصوابِ ارتكابُ الخطأ نفسهِ، ونسفُ النتاجِ الروسيّ أو السوفييتي من ذاكرتنا ومكتباتنا، لكن يحقُّ لنا اليوم أن نستعيرَ شيئًا من عناوينِه، فنسألُ بكلّ بساطة: إنّ روسيا اليومَ تقصفُنا... تعتدي علينا. فما العملُ يا لينين؟


ما العمل!

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +