جرحتُ أذني وأنا أجرّب سماع خطواتهم

جرحتُ أذني وأنا أجرّب سماع خطواتهم

لم أكن أبكي، كنتُ فقط أرتّب الملح في أحواضه من خلف زجاج الكرنك، الذي كان يقلّنا إلى بيروت. أتبادلُ مع أختي المقعد بجانب الزجاج، اتفقنا أنَّ لكلٍّ منّا مدينة، فكانت حمص وطرابلس من حصّتي.


مررنا بحيٍّ شعبيّ في طرابلس، فظننتُ أنها بيروت نفسها، أغطي رأسي بستارة النافذة المغلقة وأبكي، أكادُ أختنق وأنا أحاولُ إيجادَ شبهٍ واحد بين الصورة المرسومة في رأسي والصورة التي أمامي. بيوتٌ من الصفيح، على أسقُفها دواليبٌ لا تدور. أطفالٌ بثيابٍ رثّة ووجوهٍ «مشحورة» ورؤوسٍ حليقة، يلعبون بالسيوف الخشبية.


استسلمتُ للصورة التي أمامي، حتى قلت في سرّي إن أبي ضحكَ علينا إذ أخبرنا على مدار خمس سنوات، وهي السنوات التي بدأتُ أدركُ الحياة فيها، وقد سبقتها خمسٌ على وجودي في هذا الكوكب المزيّف، أنّ بيروت مدينة جميلة، فيها حدائق وورود وسيارات كثيرة وأبنية شاهقة، وأنّه لا ترابَ في بيروت، حتّى أنني أذكر أنّه قال لي ذات مرة: «من الصعب أن تشاهد الأطفال في الشوارع».


تنازلتُ عن حصتي من هذه المدينة لأختي، ورحتُ في نومٍ عميق. أيقظني أبي بعد ساعتين في مكانٍ يضج بالصدى، علمت فيما بعد أنّه محطة شارل الحلو. قال لي ونحن نهمّ بالنزول: «هذه بيروت». كنتُ أرى أضويّةً معلّقة في السماء، حتّى تلاشى الإبهام في صباح اليوم التالي على كتف جبل.


تعرّفتُ على المدينة عن كثب، وبدأتْ أوجه الاختلاف بين الصورتين تختفي يوماً بعد يوم، إلا وجهٌ واحدٌ هو أنّ بيروت مليئة بالأطفال الذين يقفون على منصّف الشارع عند إشارات المرور، كعشِّ نحل يفيع ما أن يشتغل الضوء الأحمر، يلسعون نوافذ السيارت بأناملهم الطريّة، حاملين العلكة وعلب المحارم وأدوات مسح الزجاج.


صار لي في هذي المدينة خمسة عشر عاماً، والشوارع تُصدِرُ مزيداً من شهادات الميلاد لأطفالها الشرعيين. أنا وحسن شاحوت وعلي الحمد أطفال شوارعٍ أيضاً، نبيع الأملَ على شكل قصائد. غادرَ الجميع، وظلَّ صدى خطواتهم يرنّ كخلخال في ساق المنعطف المؤدي إلى ساحة سمير قصير. كلُّ منهم راح يبحث عن شوارع جديدة، وأنا هنا أناغي الشاخصات المرورية، أبتسمُ للمارّة والدائنين، أنضّدُ قصائدي على رصيف شارع مونو، وفي زوايا الحمرا أشرب الكثير الكثير من النبيذ، فيبتسم لي النادل وترمقني النساء الجميلات بنظراتهن الأرستقراطية، فتسكرُ عني الشوارع، ويميلُ الزقاق الأخير من الزجاجة.


أنا كلبُ بافلوف المنتهية إقامته، أشمُّ صوت سيارة الأمن، فأشعلُ سيجارة وأتعثّر بعود ثقاب.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +