حفريّات في تاريخ كرة القدم

حفريّات في تاريخ كرة القدم

يصرّ الجميع أن كرة القدم اختراع انكليزي، لعبها البحارة البريطانيون في تجوالهم بين الموانئ الأوروبية قبل مئتي عام تقريباً. كيف تكون هذه اللوثة، الجنون، الشغف، الحب، الحياة اختراعاً أو فكرة لواحد من الناس دون أن يسجّل اسمي واسم أخي في قائمة المخترعين؟! وأزواج الجوارب  القديمة الخاصة بأبي وأحيانا أمي تشهد كم لففناها كل زوجين أو ثلاثة سوية، وركلناها على مرميين رُسِمَا بقلم رصاص على جدار غرفتنا الصغيرة؟!


على الأقل فليذكروا حسن أو طاهر، رفاقنا في الصف وهم يخلعون جوزة الفولار البلاستيكية البنية لنعلب بها في الباحة أثناء الفرصة الدرسية بين مئات الأقدام المتزاحمة، ومع كل هدف نركض كالمجانين صارخين، زيكو.. بلاتيني.. مارادونااا... كنا نظن أن المعلق الإسباني في مونديال ال 82 يهتِفُها مع كل هدف، قبل أن نكتشف لاحقاً أنها ريجي كلوبو كوبا دو موندو، شركة ريجي تنقل لكم كأس العالم، الريجي تبع الدخان والتبغ والمعسل، يا للبؤس! شو خص الدخان بكرة القدم؟! ما علينا... فليذكروا مثلاً عند الحديث عن درر الملاعب حول العالم، ملعب الغاز، صحيح أن اسمه ليس رومانسياً  كالوايت هارت لاين أو الماركانا، لكن تجمُّع الناس وازدحامهم حول مركز توزيع  قناني الغاز القريب منه يعطي الإحساس المهرجاني نفسه حول أي ملعب شهير في العالم كالويمبلي أو السان سيرو في ميلانو الايطالية! ملعب الغاز بأرضيته الترابية وحجارته الكبيرة التي تنبع كفطر الكمأة عند كل مباراة يقدّم لك فرصة استثنائية لمشاهدة بريغل، بائع الخضار نهاراً ولاعب الكرة بعد الظهر، وهو يقوم بجسمه المدحدح وبوطه البلاستيك الأسود، بإعطاب لاعبي الفرق المنافسة كالأهلي والجيل والديلمون والاتفاق، وفرق شعبية أخرى يرتدي لاعبوها قمصانًا مختلفة دون شعاراتٍ مميزة لأن ميزانية الفرق لاتكفي لشراء سندويشة فلافل، فكيف بقمصان ممهورة بالشعار وأرقام اللاعبين ومن أين لهم فناناً مشهوراً كموديلياني يصمم للفريق شعاراً جميلاً كالذي رسمه على صدور قمصان إنترميلان.


نحن أيضاً لاعبو شوارع، كل حارة وكل فسحة ولو كانت مترين بثلاثة هي ملعب كرة قدم، نقضي الساعات ونهارات الصيف وليله بمداعبة الكرة دون أن يلتفت لموهبتنا أحد، نحفظ أسماء اللاعبين والأندية أكثر من شوارع حيّنا، ماهر يحب روماريو أكثر من خطيبته! اشتم والد فراس وربما يسامحك، لكن إياك أن تشتم البرازيل، إن ابتسم لك الحظ ولعبت لنادٍ حلبي في الدرجة الثانية ستكون إصابةٌ برباط ركبتك الصليبي من نصيبك قبل نهاية الموسم. إذا كان فان باستن العظيم لم ينج منها فهل ستنجو أنت يا مسكين، فان باستن الذي تجاوزت كرته المقصية المذهلة الستار الحديدي للاتحاد السوفيتي مع حارسه داساييف في بطولة أوربا 88 وأعلنت أن النهاية آتية لا محالة.


في الملعب مع جمهور الفتوة الديري لا حصانة لحكم إن أخطأ وأعلن عن فاول أو ضربة جزاء ضد النادي، كل أفراد عائلته سيصبحون مضغة بأفواه الجمهور المتعطش للصراخ والشتيمة، وستبدأ حفلة تكسير الملعب وكل ما يحيطه من محلات ودكاكين، وشارع الدبلان الحمصي يشهد بذلك مع كل خسارة للفتوة في حمص، لكنّ صيت الغضب والجموح سيذهب مرة أخرى للهوليغنز الإنكليز الذين تسببوا بكارثة ملعب هيسل في بلجيكا في العام 85، وقُتل من قُتل جرّاء الشغب والتدافع.. من الذي تحدث عن البرود الإنكليزي بالمناسبة؟!


من حقنا على التاريخ أن يسجل ولو على هوامشه الصغيرة جملة جدي وهو يصف تقلب الأحوال مع عمره المديد، هذي الدنيا يا صاحب مثل كووورة، من أين يعرف جدي الكرة وأنها تتقلب من رجل لرجل ومن فريق لفريق وهو الذي مات دون أن يعرف أو يشاهد كرة القدم بشكلها الحديث، والذي فاجأه مشاهدتي أقفز فرحاً مع كل هدف تسجله البرازيل في مرمى شباب سوريا في كأس العالم للشباب في التسعينات، حتى وصلت القفزات ستاً، ليسألني عمّا يجري في التلفزيون، قلت له، إنها مباراة بين فريقنا وفريق آخر، وأن البرازيل سجلت ستة أهداف فينا، فأكمل سؤاله، يعني  كلهن بطيزنا؟! نعم يا جدي، بمؤخرتنا وبمؤخرة راعي الرياضة والرياضيين أيضاً.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +