1996

1996

كان ذلك في ربيع سنة 1996، حين استيقظت الحارة وكل الجوار على صوت أحجارٍ تنقلبُ بعنفٍ في الساحة الترابية أمام بيتنا، خرجَ الجميع من منازلهم وبالرغم من البيوت القليلة المطلّة على الساحة، فقد تجمهرنا أمام الشاحنات (القلابات) الآتية من البعيد تحمل لنا معها هديّةً حضاريّة تتمثّل بتزفيت تلك الساحة المتمركزة في أقصى شرق البلدة وإنجاز الكثير جداً من التصليحات على الطريق الواصل إليها، وطبعاً فإنّ هذه الخطة لم تنجز بالكامل أيضًا، بسبب عجزٍ في ميزانية البلدية. زلزل ذلك الحدث البلدة، كان عرساً حقيقياً، وقصّة جديدة دخلت إلينا، نحن فقراء المغامرات والأحداث، الأثرياء جداً بروتينيّات لا تنتهي وتتبع طبعاً للمواسم!


لم ينتبه المتجمهرون وقتها واللذين كنّا نحن «أطفال الحارة» ذكوراً وإناثاً من ضمنهم، لم ينتبهوا إلى أنّنا وحدنا من تملّكنا الحزن، باستثناء ولد واحد وهو ابن أحد المغتربين في الحارة ولم يكن يفقه أصلاً سبب ذلك الحزن الذي ارتسم على وجوهنا!


فنحنُ، أي «أطفال الحارة» خسرنا وإلى الأبد ملعب كرة القدم الخاص بنا، والذي كنا لا نملّ رسم حدوده كلّ مساء، وتحديد أبعاد المرمى وخطي الوسط والدفاع، كنّا نبقي على مجموعة من العصي الطويلة والثخينة والتي تساعدنا على إنجاز تلك المهمة، ونبقيها أسفل صخرة متربعة على كتف الساحة، لقد أزالوا الصخرة أيضاً!


وكان أكبرنا سناً وأكثرنا حزناً قائد الفريق، كان هكذا وبشكلٍ افتراضي قائداً، وكان يسمّينا، يحدد مواقعنا وبالطبع يختارُ الأفضل ويضمّه إلى فريقه. لم يكن لدينا نحنُ البنات القليلات المشاركات في هذه اللعبة وقتها أي تأثير، بل كان يتذمّر لوجودنا ويدّعي أننا نعيق اللعب بدلاً من تعزيزه. كنّا بالنسبة لهُ «متل قلّتنا» ولم يكن ذلك صحيحاً بالطبع، فبالرغم من عدم تجرؤ معظمنا على تجريب حركات الصبيان، كالانزلاق على التراب كما كان يفعل الكابتن ماجد وقتها، أو التسديد من مسافةٍ طويلة، إلا أننا ما إن استحوذنا على الكرة لم يكن باستطاعتهم تخليصنا إياها إلا بقدرة قادر، فكنّا نستخدم كل أنواع التلاعب، وبالطبع كان لأهلنا سطوة حينها فكان الولد يحسب ألف حساب قبل أن يحاول التصدي لنا أو استخدام الحركة الأشهر وهي ضربة الكتف، تلك الضربة الّتي لازم بسببها كثير من الأطفال، وعلى مراحلٍ متعاقبة، منازلهم نتيجة قلة الخبرة والتدريب والاهتمام، باستثناء ذلك الولد «المغترب ما غيره»، فقد كان ينزل الساحة في إجازاته القصيرة في البلدة بعتاد اللاعب المحترف، كنا نضحك كثيراً وندرك ضمنياً أننا أكثر قدرة على الاستمتاع باللعبة وأكثر عرضةً للمخاطرة كذلك!


أقنعنا أنفسنا نحن الواقفين بعيونٍ شاخصة وحائرة، أننا سنتابع اللعب حتى لو على الزفت، فبالعكس سنوفّر الكثير من التوبيخ المسائيّ اليوميّ الّذي نتلقاه من أمهاتنا حين نعود معفّرين بالتراب، وأحياناً بثقبٍ أو تمزّق فيما يكسو أجسادنا عند الأطراف! وقتها حشرَ نفسه بالقرب منّا ولدٌ كثير الحركة لا يتجاوزُ السنتين، كان شأنه شأن المغترب، كأطرشٍ في زفّة!


بعد أيامٍ من العمل المتواصل، والضجيج الذي ثقب أيامنا، والعطب الذي نزل بالساحة، وبعد أن زار العمّال الغرباء جميع بيوت الحارة فهنا فطورٌ وهنا غداء، وهناك كأس شرابٍ لتبديد الحرّ في ساعات العمل، دُشنت الساحة، وأصبح ذلك اسماً رسمياً التصق بها منذ ذلك الحين، كنا نحن الأولاد نسمّيها ملعبنا، وكان الكبار يسمّونها «مشرّق» تبعاً لموقعها الجغرافي. أما الآن فاسمها الساحة!


سكبوا الرمل والحصى الصغيرة في الساحة، لم نستطع اللعب لفترةٍ طويلة، فالإسفلت لازال طرياً، وبالكاد باستطاعتنا المشي عليه! بعد أيام نزلنا في أوّل مباراة، تدّبرنا الأمر كما اتفق، في رسم الحدود، ولم يستغرقنا ذلك وقتاً طويلاً، بدأنا اللعب، أدرك يومها الصبيان أنّ حركة الانزلاق أصبحت شاقّة جداً، وأنا عدت ذات المساء بعد أول لعبة، بركبة مليئة بالحصى والرمال والكثير من الدماء، وبعض الجلد المسلوخ، وندبةً لازالت عالقة إلى اليوم! يومها أغلقتُ الباب خلفي في وجه الأولاد، وفي وجه كرة القدم إلى الأبد!

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +