كيمياء الكتابة

كيمياء الكتابة

الكتابةُ بغلٌ وسَوطهُ الحنين.. يقولُ صديقي شبه المجنون!


تنوسُ الكتابة بين كيمياء ساكنة/ ستاتيك وأخرى متحركة دينامية، في حالتي الخوف والترقب لا يطفو على السطح إلا ما يفصح عن ذلك (اللا ممكن) أو ما فوق عادي وبدونِ مواربة، ويصبح الخوف نفسه منطوقاً وسرداً يكتفي بذاته، هذا يتشاكل كثيراً مع ثيمة الحرية والكتابة وبُعد أو قُرِب السلطة ممثلة برقيبها أو قوانينها بهامش جيد أو سقف واطئ. شخصيا كان نصي مكبّلاً في وقت الثورة وأنا داخل معتقلٍ كبير يتجاوز المعتقل الافتراضي الذي كنا نعيشه بين حين وآخر، وهو تكبيلٌ سبقَ الثورة وكوّنَ رقيبهُ الداخلي وأعطاه الصلاحية_ كلَّ الصلاحية_ ليكونَ منتجي دونَ أي نص حقق شرطَ الحرية أولاً، وبالتالي صارت فنياتُ الكتابة في هذي الحال تَرفاً لا أكثر، أي أن البحث الذي أقوم به يرتبط بالتملُّص من الإدانة ومداورة الأقل وبأشكال تجعلُ النار بعيدة عني ولو إلى حين، فكانَ لابدَّ من حيلةٍ أو حيّل، كأن أخرجَ فيزيائياً بجسدي وقوامي كاملاً بعدَ أن وجدتُ روحي قاصرة عن الفعل ولم تَطر بي بعيداً خارج البلد الذي يمتلك سجناً كبيرا،ً أو لنقل مزرعة حيوانات كبيرة أراد الصاحب لشاغليها أن يكونوا خرافاً فحسب، خرافاً مُعدةً للجّز. بعد الخروج من المكان الملتهب والملتبس والذي حملته معي لأشهر، والعزلة التي أتيتها بمنحة للكتابة زادتني وحشةً، مكانٌ هادئٌ، يحفُّ به الأخضر، نهرٌ قريبٌ، تَراس، موقد حطب، وإطلالات من خلف البللور، زياراتُ إناث شهيات خلسة أو علناً، راتبٌ جيدٌ، أشجار مثمرة، قيمة معنوية تُضافُ إلى السيرة الذاتية، وأخيراً لا أصواتَ إلاَّ أصواتنا نحن ساكني المكان القلّة جداً، وأصواتُ نفوسنا الرجراجة بينَ تَركٍ نخالهُ مؤقتاً وجديدٍ نحاولهُ فنفشلُ معهُ إلى اللحظةِ هذهِ.


لأنْ كنتُ بعد كل تلك المشاهد الصادمة والتي شكّلَت لي ذاكرة قريبة جديدة (ذاكرةُ الكتابة) فيما بعد، تلكَ المرتبطة «بما رأى» و«بما روى» و«بما سمع»، ذاكرةٌ خزنّت بأمانة ما عاينتهُ كفردٍ له علاقة مع المجموع ومن ثمَّ ككاتب يفكر بتحويل المادة الخام وقوامها المعقول، اللامعقول لفرطِ وحشيته، إلى مادةٍ واقعيةٍ ستشبهُ المتخيلَ واللا واقعي واللا وقائعي، أمرٌ محيرٌ لا يعاينهُ أحدٌ وهو تحتَ القصف بوصفهِ أحد رهائن الموت، إنما يحتاجُ الأمر إلى هذا النزوح الذي يبدو في حالتي طوعياً لكنهُ أبداً ليس كذلك.


لهذا كلّه كانَ الأخضرُ بكل ما يشيعه لي من صدمة لا يخلصني من لوثةِ تذكّر القريب، والقريب كثيراً من ماضٍ لم أخرج عليه فوجدتني فيه، أعاينُ أصواتهُ وأعالج ندوبَه بهدوء ظاهر وغليانٍ مستتر، وكنت _والحال هذه_  بحاجة إلى صوت أعلى من الصوت العالي/ القَلق في داخلي، لم يكن الهدوء الذي خبرتهُ بديلاً ونداً له، فكانَ في كلِّ مرة ينهزمُ أمامَ تلك الأصوات اللا متآلفة بل المتصارعة دوماً، وكانَ عليَّ أنا أيضاً أن أخسرَ في كلِّ امتحانٍ أضعُني فيه. لكنَّ تلكَ الاختبارات الاعتباطية قوّت ذاكرتي على ما يبدو وأعطتني مفاتيحَ وازنة، فتحتُ الباب بواسطتها لأدخلَ غرفَ دهشة جديدة. تغيّر الموقف وتموضعتُ من جديد لأنظر إلى المكان/ الخراب خارج ما يشيعه الحنين والنوستالجيا، قلَّ الصخب المجاني إذا جاز التعبير وجاء النص بأداة جديدة منضبطاً أكثر ويستند على حدثٍ أو فكرة وإن بشكل غائم ربما، صارت المادة الخام أقوى وأشسع بحيث يمكن الاكتفاء بها بإحاطتها، (الهذر) أقل، ومن الممكن أن تتحدث عن لحظة عبور الحدود وأنت خارجها كأمرٍ واقعي، يكفيك أن توارب قليلاً لتبث الفنية في الوقائعي الذي عاينته بنفسك، ويصبحُ الأخضرُ والمكوناتُ المؤثثة لذاكرتك الجديدة عوناً على القول، قولٌ فيهِ الكثير ينتصر للدهشة بعدَ أن غابَ ولأشهرٍ لصالح الصدمة.


للكاتب غربتان: غربة يتعالق فيها مع الإنسان بوصفه إنساناً، وأخرى بوصفه منتجاً قلِقاً ومتحسساً لذاته أكثر، حساسيةٌ تأتي من نرجسيته كونه معنيٌ بالاختلاف مع الآخر، وعموماً هاتان الغُربتان مجددتان وناهضتان بالمادة من كسلها أو فقرها الفني الذي ألمَّ بها من غياب الحرية وإعمالِ السوط في ظهورِ الخراف، إذا سلّمنا أننا عشنا طويلاً في المزرعة!.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +