الرجال الذين يصنعون الحرب لا يودّعون الحبيبات

الرجال الذين يصنعون الحرب لا يودّعون الحبيبات

الحربُ لا تترك لنا فرصة لنضع أحمر الشفاه، لن تسعفنا الشجاعة لاستحضار دماء طازجة، سيظل شعري معقودًا كذيل حصان لأن فرسًا داخلي قد شاخت.
لا مواعيد في الحرب، وما من امرأة ستطمر خوفها وتذهب إلى الحب، لكن صديقتي فعلتها وخلّفت وراءها زوجاً وأولاد! إنه الحب في زمن الحرب يهشّم كل ما حوله ويطلق خفافيش الفزَع.
في الحرب تُحيل الأنوثة الحبَ إلى الأسئلة، فالرجالُ الذين يصنعون الحرب لا يودعون الحبيبات، يكتفون بالتحديق في الخنادق وتأمّل هنّات المكان. لا رسائلَ لا قبلات ولا سرير مكشوف للفضيحة. في الحرب تَغمزُ صبية للجندي على الحاجز وحين يلتقط بطاقتها الشخصية ويقلّبها ليرى عنوانها، ستضيّع منه في الزحام فالعناوين تغيّرت والصبايا كبرن قبل الرصاصة الأولى، ستترك الجارات شرفاتهن مكشوفة للخيبة، وتكف جدتي عن إطعام سرب هديلها، تخبّئ قمحها لجوعٍ قريب. تقعدُ النساء العاطلات عن الحب على عتبات البيوت، يتلصصن على جارة ثمة رجلٌ في جسدها، يحسدن ضمور حزنها، ويؤلّفن الحكاية عن حب لم يفزن به.
نتسلى مرة بالنواح ونغبط حزننا الذي لا يجف، حين تقوم الحرب في سنينها القادمة عليها أن تختار بين عقرها وحملنا الكاذب.
في فيلم يتحدث عن الزعيم ستالين، يقول ضابط لممرضة بعد أن أصيبت زوجته بالحرب: هل أنت متزوجة، تردّ الممرضة بالنفي، يقول لها إذا لا تتزوجي حتى انتهاء الحرب. وحدث في الحرب أيضًا أن غازلت امرأة زوجي لأن الزوجات يصرن في الحرب مثل الشقيقات.
خالتي التي نزح معظم أولادها وأحفادها للسكن عندها في إحدى ضواحي دمشق، بكت من فرط حضور الحرب في حياتها.
هذه الحرب كما كتاب المؤمن يوم القيامة، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا فعلها  وترك الذنب في أعناقنا جميعًا.
الحرب لا تأتي دائمًا، ولا تفطن إلى كل بنيّها، وتنسى الحرب كذلك العازبات والأرامل ومن فاتهن القطار.
سكك الحديد خُرّبت على طول البلاد، فلن يكن بمقدوري أن ألحق بك في محطتك القادمة، هكذا  تكتب عاشقة لحبيب متخيّل.
في دمشق وفي منطقة الحجاز تقف هناك رأس المقطورة جافةً وبلونين، أخضر وأسود، تقف دون حراك وبلا أمل، فقط ليستدلّ أبناء المدن البعيدة والزاحفين إلى دمشق لأول حب على مكانهم. كان يومًا يصل دمشق بالحجاز، واليوم يقف لالتقاط الذكرى ليقول أحدنا: كنتُ يوما في دمشق!


الحرب تعرف تماماً طريقها إلى ساحة المرجة، ونساءُ ذلك المكان المزركشات يفتحن لك كفًا للطريق، فخطوط يدك المتعرجة ستقودك حكمًا إلى فندق قميء رخيص وقريب. تطلب شايًا كثيرَ أو قليلَ السّكر، شاي ثقيل لا تشربه النسوة عادةً، ومن شرفتك العاتمة تطل على ساحة الهديل تلك، والجسر الذي يسند ظهور المتعبين من حجاجها والنساء اللواتي ثقبّن أنوفهن ووضعن (الخزام) يتسوّلن على أولاد ليسوا أولادهن، وتشاهد ما تبقى من رائحة بردى لأن الرائحة أيضًا أنثى وقد أجهضتها الحرب.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +