ثقبٌ زمني يبتلع الطغاة

ثقبٌ زمني يبتلع الطغاة

سأفترض بأن القصة تبدأ من إحدى ليالي العام 399 ق.م. حين قام حارس أثيني بتقديم كأس السم لسقراط لينفذ حكم الإعدام بحق نفسه، والذي صدر عن محكمة مؤلفة من نحو 560 قاضٍ، رأوا أن أفكار سقراط تفسد أخلاق الشباب وتعاليم الديانات الوثنية الفاضلة، وأنها السبب الرئيسي لضعف الحضارة الأثينية وهزيمتها أمام إسبارطة.


وفي العام 168 للهجرة قُتل شاعر فارسي بتهمة الزندقة، إما بقطع عنقه أو ضرباً بالسوط، لا خلاف، فالرجل قُتل. يموت الناس الآن إما حرقاً ببراميل النظام السوري المتفجرة وصواريخ الطائرات الأجنبية وألعاب داعش، وإما غرقاً في البحار أثناء هربهم من الموت حرقاً، وفي كل الأحوال يبقون أمواتًا.


هذا الشاعر يدعى بشار بن برد.


في عام 759م عاش ابن المقفع أسوأ تجربة في حياته، حيث شاهد أعضاءه تُحرق على فرن تنور وهو لا يزال على قيد الحياة حتى لفظ أنفاسه، وقعت هذه الحادثة بعد مشادة كلامية بينه وبين سفيان بن معاوية، رأى فيها الأخير أن ابن المقفع زنديقٌ مفسد للناس.


ابن المقفع مُترجم كليلة ودمنة وغيرها العديد من المؤلفات باللغات الأجنبية، التي فُقد الأصل منها وبقيت ترجماتها العربية.


في عام 922م، كان الخليفة أبو الفضل الجعفر يُمعنُ النظر بمفاتن جواريه التي يعج بها قصره، حين أخبره الوشاة بأن فيلسوفًا متصوفًا من رعيته الفقيرة قال ((ما في جبتي إلا الله))، أحصى الخليفة على الفور جواهره التي اشتراها من جوع الرعية، ساءَه جداً أن الله ليس ضمن حُليه، فأمر بسجن الفيلسوف وصلبه عدة أيام قبل أن يأتي أمره بقطع رأسه والتمثيل بجثمانه.


هذا الفيلسوف يُدعى الحلاج.


في أغسطس 2014م، وبعد سيطرة داعش على محافظة الرقة، أُعدم عدد كبير من المتصوفين بتهمة الزندقة.


وفي أغسطس 1936م أُعدم الشاعر الإسباني فيديريكو غارثيا لوركا بأمر من الجنرال فرانكو زعيم الإنقلابيين الفاشيين بتهمة أنه كان جمهورياً ومثليًّا جنسياً، وما يزال قبره مجهولاً حتى اليوم.


كذلك سُجن الفيلسوف والناقد المسرحي الأيطالي أنطونيو غرامشي لمدة عشرة سنوات في معتقلات موسوليني مؤسس الحركة الفاشية الأيطالية، بتهمة الشيوعية، قبل أن يموت تحت التعذيب عام 1937م، مهاجماً ستالين من سجنه بسبب تنكره لمبادئ الشيوعية الديمقراطية.


وفي عام 2012م أُعدم الشاعر العربي هشام شعباني من منطقة الأحواز الأيرانية، بتهمة الإرهاب ونشر الفساد في الأرض وتشويه صورة الجمهورية الإسلامية الأيرانية.


حسناً، كل ما تقدمت به حتى الآن لا يعدو كونه تاريخاً تعج به الكتب، فضلاً عن كونها قصة مليئة بالثغرات، إذ لا تكفي كل لغات العالم لتعداد القتلى في سبيلها، هناك شعوب انقرضت لغاتهم ولم يبقَ من ضحاياها سوى جماجم مهشمة، فكيف لي أن أؤبن قتلاهم يا ترى؟!.


لكن سؤالًا عميقًا لديّ، ما زال معلقًا منذ عام تقريباً. هل تذكرون رجم ((الزانية)) في ريف إدلب الذي نفذه عناصر داعش ووثقوه بالفيديو؟!، أعتقد أنني كالكثير منكم تسألتُ عن ((الزاني))، أين هو عريس الغفلة هذا؟! لماذا لم يُرجم؟!.


يبدو أن مهمة الرجل لم تكن قد انتهت بعدُ في حينها، إذ عليه أن يفرغ كل ما في شهوته من كبت في أسمى تجلياته ((التحرش بالذات الإلهية))، والأسمى هنا تعني الأسفل هناك في حياة الضحايا.


هذه هي التهمة التي يواجهها أشرف فياض الشاب الفلسطيني في السعودية اليوم من قبل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، متخذين من ديوانه ((التعليمات بالداخل)) أفقاً لإشباع مخيالهم الجنسي الشبق.


ربما لا نعرف ملامح القتلة الزناة في سوريا ولا في تفجيرات بيروت ولا هجمات باريس ولا إسقاط الطائر ة الروسية المدنية بأطفالها السبعة عشر.


ربما لا نعرف ملامح المرضى الملثمين الذين يحيكون لأشرف الآن موتاً مدبراً بلا جريرة.


لكننا نتعرف عليهم من وجوه ضحاياهم على اختلاف أعراقهم وألسنتهم وعصورهم، ضحية واحدة دوماً وإن تعددت، ثقبٌ زمنيٌ واحدٌ في جسدنا، هي الجراح يطل منها الطغاة بشوقٍ على عصور الظلام حيث ينتمون.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +