ثورة الزمن الفريد

ثورة الزمن الفريد

في شهر حزيران 2011، أصبحَ التظاهر يومياً في حي «الخالدية»، لكن هناك حدث فريد اليوم، فبشار الأسد قد «خطب»، وأبناء الحي يتساءلون عن «الخطيبة»، وعن موعد الزواج، فهم لا تهمهم الروابط اللغوية بين الخَطْب والخُطبة والخطاب، في سهرتهم التي تمتد حتى منتصف الليل، يُحوِّلون كل ما يتعلق بإعلام النظام إلى ثورة سخرية، البيوت مفتوحة للجميع، وثمة حالة اشتراكية فطرية جمعت أبناء الحي بعيداً عن التنظير والشعارات الحزبية، يستطيع «المطلوب» أن يسكن حيث يريد، الطعام ملك الجميع، والمال والسيارات أيضاً، هنا لا عدوَّ سوى أسد.


المداخل المؤدية إلى الحي مغلقة بالسيارات أو حاويات القمامة، والناس قد بدأت تتوافد إلى الساحة المحاذية لحديقة «العِلُّو»، شوارع الخالدية خالية من الأمن والشرطة وحفظ النظام وكل ما يتعلق بمؤسسات الدولة، مع ذلك نتجول في أي وقت دون خوف، لعل أكثر ما يوحِّد الناس ويخلق التضامن بينهم الخطر الآتي من سواهم.


إلى الساحة، بعد العِشاء، يأتي الناس من أحياء حمص القديمة، بينما يعتلي بعض الشبان بكاميراتهم سيارة «سوزوكي»، أضواء شحيحة تحيط بهذه الساحة، لكن الهتافات تهز السماء، في هذا الحشد ينسى الكائن نفسه، هو حقاً جزء من الكل، وكأنه في حضرة صوفية، أتفاجأ بشخص لم أحبه يوماً، «أحمد الأشلق» كان يعمل في محل تصليح أجهزة الكمبيوتر، وانطباعي الدائم عنه منذ سنوات أنه متكبر، وبدوره يتفاجأ بوجودي إلى جانبه، أنت هنا؟!، يسأل كل منا الآخر من خلال نظرته المتفاجئة، نتصافح، يسألني عن قريبي المصاب، وأسأله عن قريبه المعتقل، وبعد أشهر من توالي الأحداث، سيصبح صديقاً، أتبادل معه الكاميرات والأخبار والفكاهات عن نظام الأسد، ونلتقي في حي «الوعر» الذي تحول إلى مخبأ للنشطاء، كما سنعود ونلتقي في الصباحات الحزينة لحي «البياضة» عند  «خليل مراد» الذي حول غرفة من منزله إلى مشفى، نتحلق حول جثة ضحية، أو مائدة عشاء على ضوء الشموع، ومن هناك سنفترق، أغادر البلاد، وينتقل أحمد إلى دمشق بعد اشتداد العنف في حمص، ليُقتل برصاص الشبيحة خلال تغطيته لإحدى المظاهرات في أيار 2012.


 (بشار الأسد ميكروب، وأكبر جرثومة في التاريخ)، كُتبت هذه العبارات على إحدى اللافتات، إثر اتهام بشار الأسد أثناء خطابه الثوار بأنهم جراثيم، وما هي إلا دقائق حتى سمعنا ضجة قادمة من جهة جامع خالد بن الوليد، هم أبناء حي «باب السباع»، يهتفون بحياة بشار الأسد ويحيونه، هل أصبحوا إلى مؤيدين؟!، نقترب منهم، لنرى حماراً يتقدمهم، وقد وضعوا حول عنقه صورة «الطاغية»، لا شك في أن هذا العمل مرفوض لأنه يتضمن إهانة للحيوانات، لكنها الفكاهة التي طُبع عليها أبناء المدينة، يتحلق الناس حول الحمار ويصفقون له، لكنه يدور حول نفسه، إما خجلاً أو حيرة وفزعاً.


لم تكن سياسةً أن يقول أبناء درعا «يا حمص حنا معاكي للموت»، أو أن نرى عبارة «تحية إلى ثوار الخالدية» مكتوبة على جدران «برزة»، كما لم يكن مُخططاً أن تسود فنون السخرية في أرجاء سوريا، لتصبح سلاحاً مضَّاءً بوجه الديكتاتور، لقد كانت تجليات زمن فريد، فالزمن قد يتمرد على نفسه، على الطاغية، ليتجدد، وحتى لو خبا، فإن بذرة الحرية التي غرسها أبناؤه فيه لا تموت.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +