سنة أولى لجوء!

سنة أولى لجوء!

هناك سعادةٌ لا تخصّك، فرحٌ لا يعنيك، واجهات محلاتٍ لا تأبه بعبورك الباهت في كرنڤالها اللوني. هناك طريق تعبره أكثر من مرّة ولا تفكّر في تغيير خطّ سيرك، هناك شقة صغيرة تقيم فيها فوق حقائبك المكتظّة باللامعنى. هناك وجوه عابرة لاتبادلك التحيّة، لكنّك تبتسم.


ترتدُّ إلى نفسك عندما لا تجد مقابل عطائك أيّ إيماءة، تجفّ على شفتيك، تتكوّر آهة عرجاء تزحف إلى منتهى النّفس، قبل أن تغمرها «تلك العتمة الباهرة»!


لم يكن اللجوءُ خياراً، حين أعدّت زوجتك الحقيبة وحملت طفلها ومضت خلف ظلّك تبحث عن الأمان، وتوسّلت إليك أن تأخذ ألبوم الصور وغصناً أخضر من شجرة الليمون في الحوش.


نظرت إليها، أدرت ظهرك وقلت:


- سنعود!


كان الوقت صباحاً عندما خرجت تحمل الحقيبة وتمضي في حارتك، تتأمّل التفاصيل الّتي كانت غائبة عنك؛ تلك الرطوبة الخضراء في الجدار، أحجار الرصيف المتآكلة، النوافذ الموصدة، الكيس المعلّق بسلك شائك، ما تناهى إلى مسمعك من همهمات بعيدة!


لم يكن خياراً، أنت تعرف هذا، كما تعرف جيّداً عدد الحجارة الّتي بنيت فيها ملحقاً قبل عامين ليكون فضاءً لك، كما تعرف عدد فناجين القهوة الّتي تشربها صباحاً، الأحاديث المكرورة عن مستقبل لايومئ بخصب!


ومضيت تبحث عن أمانٍ فوق حقيبة سفر، عن وقتٍ مقتطعٍ من عمرك، وقت لا تعتريه الشيخوخة ولا تٌصاب فيه الذاكرة بالزهايمر!


 ما الذي يعنيه غيابك إذا كانَ كلّ ما فيك هنا؟


هنا أو هناك... للأمكنة مزاجها الحادّ حين تلوي الاتّجاهات فلا تعرف إن كنتَ ماتزال هنا أو أمسيْتَ هناك؟


ما الذي يعنيه الموت إذا كانت حياتك قد توقّفت قبل هذا الشتات؟


ما الذي تعنيه الحياة في البعيد إذا كنت تعرف الوقت الذي يستغرقه ذهابك مشياً على الأقدام إلى مقهى النخيل؟


وأيّ نسيان يستطيع أن يغمر حياتك الّتي تركتها خلفك تردد :«نحن شعب الذاكرة بامتياز!؟»


 تحمل جسدك وتمضي، تفتعل حديثاً بإنجليزية بائسة مع عابرٍ تستوقفه، تسأله عن مكان ما.


لن يخطر في بالك أن يجيبك بـ رقّاوية مغرقة بالحياة:


- إن چاد الله ماچـذّبني آخر شارع الوادي... هَرْواحَك!


لن يخطر ببالك أن يدعوكَ لتشربا الشاي عند باب المحل، أن تتجادلا حول ما يحدث، أن ينتهي احتمال شجارٍ بتسويف ضاحك، أو أن يمشي معك إلى المفرق، ليشير بيديه ويدلك:


- شايف هذيچ السيارة؟ منها وغاد.


وهناك سعادة لاتخصّك، فرح لايعنيك، بلاد تستفزّك لتقارن بينها وبين حياتك المحنّطة؛


لتقارن بين طعم السكّر هنا ولذة المرارة في حلقك هناك، بين زهرة أوركيد على طاولة في مطعم وغصنٍ أخضر جفّ بيد زوجتك!


لتقارن بين شقة صغيرة تطلّ على قبور متحركةٍ، وبيت يطلّ على مللٍ جميل اسمه «ترانا ﮔاعدين شمعجّلك؟!»


لتقارن بين إقامة شعب كامل على حقيبة سفر، وكيس نايلون تغيّر اتّجاه الريح، فطار بعيداً تاركاً فراغًا على سياج القلب يكفي ليدٍ تهزّ أسلاكه الشائكة!


وهناك تجلس على ناصية الرصيف، تتحسس مفاتيحك في جيبك... وتميّزها:


مفتاح باب بيتك، مفتاح باب عملك، باب الخزانة، باب الملحق، باب بيت أهلك، باب بغداد.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +