فيلمي الأول الذي لم يكن

فيلمي الأول الذي لم يكن

كم ستكون محظوظًا لو أنك اخترت العمل في مجال صناعة الأفلام، وحصلت على أول منتج آمن بك وأنت في العشرين من عمرك؟ هذا ما حدث معي. ولكن الفرصة الذهبية ضاعت، والفيلم لم يكتمل. وكانت حكاية فيلمي الأول التي رويتها مرات مرات بمرارة للأصدقاء، واليوم ولأول مرة، أكتبها عل المرارة تغادرني على فيلم ظل حبيس الأدراج الرسمية.


بدأت الحكاية في العام 2003، حيث قامت اللجنة الدولية للصليب الأحمر بتنظيم حملة تحت عنوان «الأطفال والحرب». واجهت الحملة مشكلة بسيطة، وهي أن من أهدافها العامة التوعية بوضع الجولان السوري المحتل، لكن كل النشاطات التي قامت على إشراك أطفال مدارس سوريا للتعبير عن رأيهم بالحرب لم تتضمن ذكرًا للجولان، إذ لم يفكر الأطفال سوى بفلسطين والعراق،  ولتغطية الثغرة في البرنامج، اقترح أحد المسؤولين عن الحملة، إنتاج فيلم وثائقي عن أطفال الجولان، وتم الاتصال بي لإخراج ذلك الفيلم.


بدأت البحث عن فكرة فيلم وثائقي عن أطفال الجولان، واكتشفت أن الفيلم لا يمكن أن ينقل فكرته إلا إذا صُوِّر في الأراضي المحتلة وهو أمر مستحيل بالطبع، أو أدخل على الفيلم جانب روائي، ليروي قصة أطفال الجولان منذ 1967، عام احتلال الجولان، وقد وقعت بمحض المصادفة على قصة شديدة التأثير، لقرية جولانية محاذية للأراضي الفلسطينية المحتلة، نزح أطفالها وحدهم دون أهاليهم، ومن خلال البحث أيضًا علمت أن بضعة آلاف من الفلسطينيين نزحوا من فلسطين عام1948 ثم عادوا وهجروا عام 1967 فقررت أن تكون إحدى شخصيات الفيلم فلسطينية، وقابلت عائلات نازحة وكانت بطلة الجزء الوثائقي من الفيلم امرأة رائعة تعيش في المزة 86 في منزل مؤلف من غرفتين مع عائلتها المؤلفة من 10 أطفال.


كتبت سيناريو الفيلم. وعرضته على رئيس اللجنة الدولية الذي استطاع تحصيل شراكة من وزارة الخارجية السويسرية بحكم أن ميزانية الفيلم قد كبرت.


كان التصوير يبدأ على الشريط الحدودي مع الأراضي المحتلة، ضمن احتفال 17 نيسان، وبعد التصوير بعدة أيام، طُلبتُ لمقابلة في وزارة الإعلام، حيث قابلني طالب قاضي أمين وكان يومها نائب وزير الإعلام، ليخبرني بعد أن طلب مني رواية كل سيناريو الفيلم الذي كان يحمله في يده، أن فيلمي محفوف بالمشكلات، وأولها المرأة الفلسطينية، أم بطل الفيلم، لأن الشخصية تعني أن المرأة السورية ليست مناضلة بقدر مثيلتها الفلسطينية، فوجئت وحاولت الدفاع عن فكرتي بأن هذه المرأة تمثل ارتباط القضيتين. ولكنه في النهاية أخبرني أنه لا يستطيع اتخاذ قرار بالسماح بالفيلم لأن القادر على اتخاذ القرار هو مسؤول المنظمات الدولية في وزارة الخارجية.


ذهبت للقاء هذا المسؤول، ورافقني رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر، دخلنا إلى المكتب، فإذا بمسؤول يعرفه السوريون اليوم فهو مندوب سوريا في الأمم المتحدة، يجلس خلف مكتبه بنظرته المتعالية نفسها. نعم، إنه الدكتور بشار الجعفري.


اتفقنا على أن تكون الجلسة باللغة الفرنسية كي يفهم رئيس اللجنة الإشكال الحاصل، وبدأ النقاش بأن طلب مني أن أروي سيناريو الفيلم الذي كان أمامه على المكتب. وفي منتصف الحديث، فجأة، حدثني بالعربية: أنت لا تعرفين بم تتورطين، أنت شابة ولا تعرفين طبيعة هؤلاء -مشيرًا إلى رئيس اللجنة-، الصليب الأحمر جهة معروفة بأنها صهيونية! صعقت، ولم أعد أعرف بم أجيب، شعر رئيس اللجنة بتوتري فسأل: ما الذي يجري؟! فأجابه الجعفري: سنسمح بتصوير الفيلم بشرطين، الأول أن تذكروا قرار الأمم المتحدة القاضي بانسحاب الاحتلال من الأراضي المحتلة بعد عام 1967، والثاني أن تصوروا القرية التي تتحدثون عنها. قلت: وكيف سأصور فيها وهي محتلة؟ قال الجعفري لرئيس اللجنة وهو يحاول تجاهلي: دع مكتبكم في تل أبيب يصور. فأجاب رئيس اللجنة: ليس لدينا محترفو تصوير، كما أن السلطات الإسرائيلية لن تعطينا إذنًا للتصوير. فقال الجملة التي أرقتني بعدها لشهور: ولِمَ تتوقع مني أن أسمح لك إن كانوا هم لا يسمحون! قلت محاولة تهدئة الأجواء: لم لا تسمح لنا يا دكتور، بتصوير الفيلم وعرضه عليك وإن لم يعجبك، امنعه. فالتفت إلي باستهزاء وقال مشيرًا إلى خزانة موضوعة خلفه: جربي صوريه، وما رح يطلع من هالخزانة...!


هكذا منع فيلمي الأول قبل أن يصور، على باب مكتب الجعفري. اعتذر مني رئيس اللجنة: لقد سعدت بالتعرف إليك والتعامل معك، وأنا متأكد أنك فتاة موهوبة، ولكنني بذلت كل ما أستطيع، وقد قامت حكومة بلدي بتمويل فيلمك فيما منعته حكومة بلدك…


حكومة بلدي التي حاولت الاحتجاج لديها على هذا القرار الجائر، وغير المبرر، فلم ألق أي أذنٍ مصغية، ولم أستطع حتى اليوم فهم سبب منعها لفيلمي، سوى من تكهنات بأن فضح أوضاع اللاجئين الجولانيين ستفتح باب التساؤل عن كمية هائلة من المساعدات تم تلقيها لتحسين أوضاعهم.


منذ اندلاع الثورة، وكلما انعقد اجتماع للأمم المتحدة، وتكلم فيه الجعفري، تذكرت إشارته تلك، وتخيلت خزانته، مليئة بأشرطة عليها كل الحقائق، كل الصور، كل ما يجري في المعتقلات، كل المقاطع التي تسجلها الكاميرات المرافقة! للجيش، ولقطات من فيلمي الأول الذي لم يكن.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +