إنانا... الشّهيدةُ السّومريّة

إنانا... الشّهيدةُ السّومريّة

كوقعِ الشعرِ على آذان العرب، وكصوت جنينٍ يرى النّور، يبكي فيُطربُ من تحلَّقوا حوله مهلّلين ومُكبّرين، أصغى أهلُ سراقب وعمومُ السّوريّين إلى شدوِ الصّبيّة السّومريّة خلف صوت أبيها ودندناتِ عوده، وهي تغنّي لمن غنّى سراقبَ والحرّية في مطلع فجرها «محمّد حاف.. محمّدنا».


كنّا ندندنُ خلفها ونبكي الشهيد دون أن نعرفها أو نعرفه، نحنُ الّذين لم نزر سراقب ولم نهتف لشهدائها في مظاهرةٍ يقودها «محمّد حاف»، سمناه زيتونةً فوق سفح, وكتبناه ترتيلةً تخطّها «إنانا» فوق علم الثّورة، وغنّيناه موّالاً بتقسيمات «خالد شلاش»، صوّرناه جميلاً كصوت «آلهة السّماءِ» تلبسُ القندورة في حواريّ سراقب، وتكتبُ على حيطانها «تُنسى كأنّك لم تكن».
في الثامن عشر من تشرين الثاني المُنصرم، نعت سراقبُ كلّها المربّية «فاطمة اسليم» بعد استشهادها بغارةٍ أسديّة، تلك المُربّيةَ التي تأدّب على يديها جيلٌ بأكمله من أهل المدينة، فيما بقيت ابنتها «إنانا شلاش» تقاسي جراحاتِ حقدِ الذين قتلوا أمّها، ظلّت ذاتُ الصوت الجميل والخطِّ الأصيل تئِنُّ أنينَ عصفورٍ جرّاء إصابتِها بجروح بليغة، خشينا جميعاً حينها أن تشتاق أمَّها فلا تطيق إلّا على الرحيل خلفها لترى محمّد حاف وأحمد العيسى «داعور سراقب» وشهداء الثّورة الأوائل، خشينا أن تطلب السّماءُ مليكتها السّومريّة، وكان ما خشيناه، ما هي إلّا أيّامٌ قليلة حتى ذهبت إنانا للجلوسَ حيثُ يليقُ بها -سماواتِ الله- مع أمّها ورفاق الثورة.
أسمعُ صوت إنانا تغنّي، أسمعُ صوت الشّهيدة، أرى أهل سراقب حولي قد أبأسهم رحيلُ أُخيّةٍ وابنة، أسمعُ صوت صديق العائلة الستّيني عبد الله برغل ممزوجاً بغصّة الباكي وعبرته يقول «إنانا.. عود النعناع الذي مازال ناضراً.... إنتو لو تعرفوها لهاي البنت ما استغربتو شي، بنت معجونة بالذوق والفن والجمال والطراوة والأخلاق»، فأقول: هذا أقلُّ ما قد يقوله مؤبِّنٌ في مُؤَبّنٍ كـإنانا... بكتكِ الرّجال يا إنانا.


كانت إنانا تخطُّ مع والدها يافطاتِ المظاهرات السّلميّة، تكتبُ رسائلها للحرّيّة، الرّسائل التي تطوف سراقب في جُمَع الثّورة، كانت الشهيدةُ السّومريّة وحدها قادرةً على إذلال رصاص الظالمين بمخطوطةٍ وأغنيّة، كانت ثائرةً وكفى.
أسألُ عن «إنانا» فتجيبُ صديقةٌ: «مابعرف غير صوتها وعيونها الحلوة، بس... ياريت لو كنت بعرفها، كنت كتبت عنها بكل نجمة بالسما، لتضوّي أمانيها عتمة هالكون». كانت الناسُ تسأل والدها عن حالها عندما نُقِلت لتلقّي العلاج في إحدى مستشفيات اسكندرون، كان دائماً يجيبهم «منقول خير».
اليومَ بوسعك أن تجزم أنّها بخيرٍ أيُّها الفنّان، اليوم تحكي إنانا لأهل السّماء عن أهليهم وأحلامهم، تخبّرُهُم عن أولادهم الذين تركوهم خلفهم.


لا أَصْدَقَ من إنانا، ولا أَقْدَرَ منها على إقناع الشهداء الثّوار أنّ ثورتهم وإن سُرِقت بخير.
لم يتسنَّ لـ«إنانا» ذات الأعوام التسعة عشر أن تُكملَ دراستها في الأدب الانجليزي، سلبت الثورةُ الشهيدةَ الطّفلةَ لبَّها، فآثرت الوقوف في وجه الطغيان بعينين عربيّتين كحيلتين تشعّان أملاً ورؤىً على الجلوس  فوق مقاعد الجامعة، كانت الطّفلةُ أمّاً من أمّهات الثورة. من أين نأتيكِ يا إنانا ببواكٍ ليس ينضحُ دمعهنَّ، فما أنتِ التي تُذرفين بعد رحيلكك بدمعٍ ينقطع.


12342806_770451763061153_1140590884667533002_n



سراقب اليوم كطفلةٍ تبكي أمّها، وكأمٍّ تنعي جارِحها الصغير. إنّه أوان رحيل الجميلين يا صبيّة، إنّه أوان رحيل الّلحن الرّصين الرّزين أيها السوريّون، غمّسوا كفّي هذي العروس السومريّة بالحنّاء، أسرجوها مُهرةً عربيّةً للمجدِ والحرّيّة، زوّجناكِ المجدَ يا إنانا، فارقدي بسلامٍ ياعروس، سنشتاقكِ جميعاً يا خُضرة الزيتونِ، وهذا " target="_blank">ليس سرّاً.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +