الكتب التي فقدت أصحابها

الكتب التي فقدت أصحابها

حين كنا نمرُّ بجانب بسطة كتب، كنا نقفُ بشغفٍ لنتفحص العناوين بدقةٍ ونُقلِّب الصفحات بعناية، وأحياناً ندفع كل ما في جيوبنا لنشتري كتاباً ملفتاً. كنا ننقّب لساعاتٍ بين أكوام الكتب المتراصة تحت جسر الرئيس لنحظى بشيء يعجبنا، نتهافت على معارض الكتب المنتظرة لنشتري عشرات العناوين، تنتابنا سعادةٌ كبرى كل ما زاد حجم مكتبتنا ونُفاخرُ بهذا الزاد المعرفي، كنّا ندلل كتبنا كامرأة جميلة، فهي الهاجس الأجمل في حياتنا. الكتبُ التي علَّمتنا وصقلتنا وهذّبتنا، والتي كنّا نتناقلها من صديق إلى آخر، الكتبُ المرتبطة بمراحل وتفاصيل وأحداث مهمة، وةكانت شاهداً على تاريخنا وحكايتنا الشاسعة، اليوم تشردت ونزحت وماتت كأصحابها.


ثمة كتبٌ دمرها القصف والقذائف فماتت في ساحة المعركة، وأخرى مُعارة أو مودَعة، نسي أصحابها استرجاعها في زحمة الحياة، فتشرَّدت من منفى إلى منفى. في منزل صديقتي عشرات الكتب المسجّاة على رفوف المكتبة، تركها أصحابها وديعةً بعد أن تفرقوا في الأرض، ومرَّ وقتٌ طويل وهي لا تزال حبيسة الرفوف والأدراج، تنتظر لمّ الشمل.


تقولُ الصديقة إن هذه الكتب أصبحت تجثم أمامها كالجثث المحنّطة، وتحاصرها بالذكريات. هناكَ كتب عاشت الحصار وذاقت شتى أنواع العذاب، أحد الأشخاص في مخيم اليرموك تركَ مكتبته محاصرة هناك بعد أن خرج بتسويةٍ لم تشمل خروج المكتبة، ولا يعرف إن كان سيلتقي بها مجدداً ومازال طيفها يلاحقه كل يوم. أشخاصٌ آخرون في «حصاراتٍ» أخرى، اضطروا لإشعال العشرات من كتبهم الثمينة ليتقوا برد الشتاء، وليطهوا على نارها ما تيَّسر لهم من طعام، فلا وقت للمعنى في حضرة الجوع والألم. ثمة كتب باعها أصحابها بأبخس الأثمان لأسبابٍ قاهرة، وبعد أن كانت تعادل كنوزاً لا تحصى، أصبحت مهملةً على بسطات الكتب المستعملة ومشردة على أرصفة الباعة  كآلاف المهجرين المشردين في بقاع الأرض.


الكتبُ أيضاً كالبشر هنا لم تعد تعرف الاستقرار والسكينة، مازالت كتب صديقي مكدّسة في صناديق وأكياس، لا رغبة ولا شغف لديه ليوقظها من سباتها ويوزعها في مكانها المناسب، فهو يقيم في منزلٍ يقع على جبهةٍ ساخنة وقد يبدّله في أي وقت، وعلى كتبه أن تبقى مستعدةً للنزوح مثل آلاف الكتب التي نزحت هرباً من الموت إلى أماكن أكثر أمناً.


كما يتبع الأصدقاء خطى أصدقائهم، هناكَ كتبٌ تَبِعت أصدقائها، فطريق دمشق بيروت يعرف جيداً حجم الكتب التي عبرته مع الذاهبين إلى لبنان ومع سائقي السيارات، ومكاتبُ الشحن حملت الكثير منها الى بقاع الأرض لتلتقي بأصحابها. بعضُ الكتب الممنوعة التي دخلت فيما مضى إلى سورية بصعوبةٍ بالغة، لحقت بأصحابها حين سافروا بالصعوبة نفسها، متنقلةً في حقائب الأصدقاء المغامرين، ومتحديةً معهم سلطة الحواجز والحدود.


 في البحر كان أحد المهاجرين يحمل حقيبةً من كتبه الأقرب إلى قلبه، لكن المهرّب أجبره على رميها كما أجبر جميع الركاب على رمي الحمولة الزائدة، بعد أن أوشكَ القارب على الغرق، فابتلعها البحر الذي  يعشق ثقافة السوريين.


في منزلي عشرات الكتب، بعضُها أُرسِلَ إلى قرى أصحابها لتبقى بأمانٍ, وبعضها موزعٌ بين كتبي في مشهدٍ عبثي، وبعضها مازال مخزّناً في كراتين مغلقة كُتِبت عليها أسماء أصحابها ولم يسعفني الفضول لاكتشف ما بداخلها، كي لا أفتح أبواب الذكريات. هي كغيرها من الكتب اليتيمة الموزعة في إقاماتٍ جبرية تنتظر مصيراً ما، هل ستلتقي بأصحابها؟ هل ستنزحُ إلى أماكن جديدة؟ أم سيأكلها الوقت وتضيع كما ضاع تاريخ كثيرٍ من السوريين؟

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +