العاصي ليس نهراً لتعبره الزوارق

العاصي ليس نهراً لتعبره الزوارق

ثمة مراهقةٌ كانت ترعى أغنامها هناك، كنتُ في الخامسة عشرة، وكان النحل الكفيف يتلمس طريقه إلى روحي، عجنّا روحَينا بالحنّاءعلى ضفة النهر، ولمّا قصصتُ رؤياي على صاحبي الذي يكبرني قليلاً، قال انت عاصٍ وعليك ان تتوب، فعرفت أن النهر أعطاني أكثر من الحنّاء، ربما أعطاني اسمه أيضاً.


ولدتُ وفي قريتي نهر، لذا كان الماء عادياً في حياتي ولغتي وبرجي. وكعادة القرى التي تجرحها الأنهار، ولدَ في قريتي كثيرٌ من الطيبين والشعراء، لكنني انتبهت إليه فجأة -حين قَبّلتُ الراعية-  فخرج عن مدلوله العادي، لم يحضر بجبّته الزرقاء كما حضر باسمه. كنت أتساءلُ دائماً عن سرِّ التسمية، ولم تُشفِني تلك الإجابات النيئة التي اقترحها العلم والجغرافيا، والتي كانت تتحدث عن جهة الجريان، فالذي كنت أعرفه أن النهر كان يذهب إلى مكان غامضٍ، يحمل رسائلي الورقية إلى الأميراتِ المتشحاتِ بالسوادِ تارةُ، وإلى الله غالباً.


عاصي، عصا، معصية. رنينُ الصاد البهيِّ كالجرس ربما نبّه روحي إلى ذلك الغرق الغامقُ في غابات اللغة، كانت علاقتي مع اللغة ولا تزالُ علاقةً مائية، والنهرُ كان بالنسبة لي مُعجماً للأصوات التي تثير دهشتي ولا أفهمها. سيبتلعه البحر في النهاية، هكذا قال أبي حين سألت: هل سيقرأ الله رسائلي؟ حزنتُ قليلاً، وعندما عرفتُ أنني سأموت أيضاً، قلتُ إن هذا قدرُ الأنهار.


شاهدتُ فيضانه مرةً واحدةً فقط، ولكنها كانت تكفي لأعرف أنه ضاق ذرعاً بمجراه، وارتأى أن يقترب من بيوتنا أكثر ليمهس لنا بالسر الذي لن يصدقه أحد.


عندما يذهب الرجال في قريتي – كل الرجال- إلى صلاة الجمعة، يُخيّم حزنٌ مخيف على القرية، تكفُّ النساء عن الكلام وتوبيخ الصغار، وينشغلن بأعمالهن المنزلية، وتصيرُ البيوت كالجبال التي هجرتها النسور. حينها يكون العاصي هادئاً، وأكون أنا وصديقي الذي يكتب الشعر أيضاً، ضيفان على الضفة، معنا قناني البيرة والأوراق التي كتبناها مؤخراً، وكذلك بعض الخيبات، أمَّا في بقية الأيام فكنتُ وحدي على الضفة بين الأشجار، أكتبُ ما كنت أتوهم أنه الشعر.


والآن، حين أتذكرُ قُصاصاتي الأولى، يبكي في روحي موالٌ قديم «صفصاف لا تنحني شرشك على المية»، الصفصافُ جرسٌ آخرٌ من أجراس الصاد، وخليلُ العاصي الأبدي، وهو مثله لا ينحني.


لم يغرق أحدٌ من أبناء قريتي في النهر، ربما لضحالته أو لرحمته، فالعاصي ليس نهراً تماماً لتعبره الزوارق، لكن، وبعد أن أتت الحرب، صادفَ المزارعون كثيراً من الجثث المجهولة الطافية، وقُتلَ على الضفة واحدُ منّا، لم تتغير ملامح النهر، إلا أن تعديلاً طفيفاً طرأ على جرسِ الصاد.


لم يكن العاصي نهراً فقط، ربما كان البريدَ الذي يرسله الغيم إلى أهلي، أو مجازاً على هيئة جرحٍ في خاصرة الأرض.


قبل شهرين بدأت الطائرات الروسية تقصف قريتي تيرمعلة بكل ما فيها من بشرٍ وموسيقا وأنهار، وبدأت نشراتُ الأخبار تتحدث عن تلك القرية الصغيرة، لم يلتفت المذيعون والمذيعات إلى رنّة الاسم، تيرمعلة «تيررر... مع.. لاااااا»، صوتٌ رومانيٌ قديم تنفخهُ آلةٌ موسيقية اخترعها إله الشعر، وسرقها إله الحرب. كنتُ دائماً أتخيل أن العاصي إلهٌ ينام ولابد أن يستيقظ يوماً، وحين قصفوا القرية سقطت كثيرٌ من القذائف في الماء، فعرفتُ أن إلهي قام ليحمي أتباعه القرويين من الموت.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +