وقتٌ لوداع الفرات

وقتٌ لوداع الفرات

أن أكون من منطقةٍ جبلية لا تحتوي أيّ أنهار، والماء بالنسبة لنا مسألة معلقة ببعض الينابيع الطبيعية وبسخاء شتاءاتنا، حيث ننتظر أن ينتهي الشتاء شديد القساوة عادةً، لننعم في أوائل الربيع بما نطلق عليه اسم السد.


وهذه السدود التي فرضتها مساحاتٌ لابأس بها من الأراضي«المقعرة» إلى حد ما، أتاحت لنا فرصة الاستجمام بعد سبات أرواحنا الشتوي، ولكنّ أن أكون من منطقةٍ جبلية ولا تحتوي أيّ أنهارٍ، فأنا أنتمي إلى إلى عالمٍ مليء بالتساؤلات عن الماء! لا نفقه وداعة الأنهار ولا غدرها، نتقن السباحة متأخرين ولا نملك أجساداً كما الرماح! تتضاءل التساؤلات، وتبرق العيون حين نلتقي بشخصٍ عاش على ضفاف الفرات، النهر الذي يقتحم قلوب عارفيه، ويعشّش في أرواحهم كحلم أزلي، النهر الذي يعتبرون أن لحم أكتافهم من خيره، ويفاخرون بأنهم من أهله، وأن البامية «الديريّة» مثلاً، لها هذا الشكل المكتنز المغري، والملوخية (الديرية أيضاً!) تفتح أوراقها العريضة بكرم خيمةٍ بدويّة لعشيرةٍ لازالت تتقن بداوتها كفنّ عريق.


حين أحبّ الشاب ابن الفرات فتاةً من منطقتنا، والّتي بدورها سافرت إلى هناك لإتمام دراستها، كانت وسيلته الوحيدة بعد محاولات الغزل والإقناع، أن يُوقِعها في حبّ النهر، أن يجعلها تتعثّر في ذات الغواية التي سقط في قاعها منذ ولادته، فكان يحتال عليها لتتمشى معه على النهر، حين يصلا إليه، كان يهلّل لجماله، يهدأ سرّه الذي يشتعل في جوفه، وتتراقص في عينيه الأغاني والمفردات، يعبر بها عبر النهر وكأنه «المعيبر» ويحكي باسترسال العارف ويدير الحديث كسفّان!


حين أنهت الصبية مقررها الدراسي، وقبل عودتها إلى بلادها «حيث لا أنهار» جاءها الشاب لاهثاً يقطرُ هياماً، وأخبرها أنها لا بد أن تودع النهر، وبالطبع لم تكن الأيام التي قضتها بمحاذاة النهر كفيلة بإيقاعها في غرامه، فنحن لا نفقه الماء! وحين أدرك أنه فشل في استمالتها، وإغوائها، قادها برفق إلى محطة البولمان، وبحيلةٍ مدبّرة أخذها حيث يتسنى لها مشاهدة الفرات للمرة الأخيرة، قال لها حينها: «دائماً في وقت تودعي الفرات»


لاقعُد بفيّ الغْرَب


آني والحضيري


ربيتهم من زُغُر


صاروا وِلِف غيري


يقول صديقي الرّقاوي الّذي يحمل حكايا النهر ومفرداته بالطبع، يقول إن الفرات كإله، له أضحياته، ومزاجيته، رعبه ووداعته، كرمه واقتضابه، الفرات في وجداننا كإله! كل شي بالفرات حلو إلا غضبه!


فالنهر الذي أخذ مئات الحيوات والأرواح، من نساء وأطفال، ظلّ محافظاً على وقاره وجبروته، فلا تطاله لعنة أو لوم، تلك الأرواح حصته من الأضحيات، الأضحيات التي تليق بإله.


يحاصرني السحر حين تحكى لي قصص الفرات، أحاول حفظ الأغاني التي لا أفهمها، والتي يغنيها أهلها على إيقاع قلوبهم، يتلونها كتعويذة تغصّ بشجنٍ غير مفهوم، وتزدحم بالحزن والآهات، ندخل نحن الغرباء ملكوت هذا اللحن، بأقدامٍ حافية، ودموع محبوسة ما أن نفكفك عنها القيود حتى نحترق بلظى حنين غير مفهوم هو الآخر. الفرات ضجيج لا يغادر أرواح ساكنيه حتى وإن هجروه، وإن صمّوا آذانهم عنه، ضجيج عذب وحارق، جبار ووديع، رقيق كالوشوشات وعنيف كشوقٍ موحش للورّادات والغناء السويحلي، والحور الفراتي، والغراف والجرف والصفصاف...


ومن فوق جسر الرقة


سلم عليّ بيدو


ما قدرت أرد السلام


خاف يقولون تريدو

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +