قصيدة النّهر

قصيدة النّهر

قالني النهر


أم قلتُهُ..


ليتني كنت أدري.


***




نهنهتُ هذا الدمع ما يكفي


دماً


وحضنتُ سنبلتي


وكانت لي يدايْ.


نهنهتُهُ..


وملأتُ صمت النهرأسماءً


بغير مسمَّياتْ.


فلمن سأوصي بي


إذا اتسعت خطايْ


وتلهلهتْ سُبلي


وكنت أنا الجهات؟!


**


سرَّحتُ أسئلتي


وكان النهرُ فاتحةَ القصائدِ


صافياً كالحزن في الأعراس.


علَّمني البلاغة والغموض


وظلَّ جرحاً ذاهل الإيقاع


منتشياً بما يمضي إليه


من المعاني


واشتقاق الصمت


والجريان.


من ليس نهراً


أين تذهب ضفتاهْ ؟!


من ليس نهراً


كيف يَشْرَحُني:


صغيراً


حافيَ القدمين


منجرِد الطفولةِ


عارياً حتى سريرتهِ


ويسهر مرة ليلين متَّصلين


لكنْ حين يضبطه المعلم


نائماً في الصف


يخجلُ


ثم يشهقُ


ثم يبكي..


هل يقول لهُ:


سهرتُ


لكي أرى إن كان حقاً


لا ينام الله!!


لو أحدٌ يردُّ عليه فَضْلَ بكائهِ


أحدٌ يردُّ عليَّ جرحاً


لا أراهْ.


من ليس نهراً


أين تذهب ضفتاه؟!


ما من قتيلٍ قال لي شيئاً


ولو بالرمز والإيحاء.


فَرْداً..


رحتُ أجترح الوصايا والحقول


ركَزْتُ روحي


فوق رمحٍ


علَّقت أمي عليه لواء وَحدتها:


ستكتب أجملَ الخطوات يا ولدي


وتخطو أبعدَ الكلماتْ.


ما من قتيل ردَّني عن يأسهِ


والنّهرُ..


حتى النّهر غرَّر بي


فولَّهني


وألَّهني


وأشهَدَني على دمهِ


وماتْ.


ـ لا يا صغيري لا يموت النهر..


ـ لكني رأيتُ جنازة الأسماك يا أماه!!


بلى..


ورأيت أشجاراً


وأطفالاً


وآلهةً


تشيِّعها القرى والريح..


ما معنى:


"إله الكيمياء الكلب" يا أستاذ؟!


تنشطر المآذن عن مساجدها


و تشطرني..


نساءٌ ينتهبن الروح


يالعيونهنَّ!!


أما يراها الله؟!


ليس الدمعُ آخرَ ما تقول..


كأنني يا نهر


أجهشَ بي هزيمُ سفوحهنَّ


وقالني جسداً فصيحاً


من أقاصي الشعر والقرآن.


تنشطر الحكايةُ


والظلالُ


وقامتي قوسٌ وقنطرةٌ


وجرحٌ فاغرٌ غدُهُ


وفضَّاح هواهْ.


يا لا إلهَ يردُّ هذا الطفل عن دمهِ


ويمنحه الأمانْ.


يا لا سبيلَ


ولا دليلَ


ولا شهودَ


ولا قضاةْ.


**




كنا نرى الأشجار طافحة الأنوثةِ


في سرير النهر..


كان الماءُ ماءً


كانت الأسماك


والبجع الأميرُ


بشاشةُ الرمَّان والتين المشاعييَّن


أحلامُ الصبا


والمرج


والصفصاف.


ـ ما معنى:


"إله الكيمياء الكلب" يا أستاذ؟!


من سرقَ البشارة من فراشتنا


وحمَّلنا مراثي اللون؟!


من جرحَ الغناء


ورشَّ في ناياته البحَّاء ملح


الروح؟!


من فتحَ الطريقَ إلى السماء


بكل هذا اليأس؟!


من جعلَ القتيلَ عقابَ قاتلهِ؟!


لماذا لا يجيب النهر يا أبتي


لماذا لا يجيبْ؟!


**



ـ كأنكَ يا نهرُ لستَ تراني؟!


(تهدَّجَ ماءٌ عميقُ الصدى)


ـ بل أراك.


ـ ولكنني لا أرى


و "الكَلَبْشَاتُ" تنهش حتى المعاني


البعيدة للروح..


غيري أنا الآن


غيري تماماً.


ـ تظنُّ وتهذي.


ـ لعلَّك لم تنتبه لثيابي


وقد شلشلتْها دماءُ كثيرين من


أصدقائي.


ـ أضفْ كلَّ هذا غداً


ـ دُلَّني كيف؟!


ـ أنتَ الدليل الذي


سوف يرسم مجراي من بعدُ


لا تتردَّدْ .. ولا تلتفتْ


( كاد يجهش بي


وهو يُردِف منسحباً ):


تستحقُّ العيونُ الكحيلةُ


أغنيتين..


نحبُّ بواحدةٍ موتَنا


وبأخرى نحبُّ الحياة.


**



أماه


لو مطرٌ إلى مطرٍ


لأبكي


أماه


لو نايٌ إلى نايٍ


لنبكي


ما همَّني أنْ مزَّقت جلدي سياطهمو


ولكنَّ الهوى قتَّالْ.


والنهر يتبعني


ويأخذني



والنهر يأخذني


ويسبقني



والنهر يتركني


ويمعن في الذهابْ.


__________




* كُتبت هذه القصيدة في سجن صيدنايا عام 1995، أثناء فترة اعتقال الشاعر فرج بيرقدار الذي استمرّ لأربعة عشر عاماً، سبقتها أربعُ سنواتٍ عاشَها متخفّيًا في سوريا، قبلَ أن تتمكّنَ دوريات أمنية مشتركة من إلقاء القبض عليه.


حينَ كتبَ فرج بيرقدار هذه القصيدة، كانَ يظنُّ أنّهُ سيظلُّ حبيسًا بين جدرانِ السجنِ حتى نهاية حياته. إذ قالَ سابقًا:


إن «قصيدة النهر كتبتها في السجن عام 1995، كنت أعتقد أن سجني سيستمر إلى نهاية حياتي، حاولت في القصيدة رواية سيرة ذاتية لي وللنهر بمعناه كنهر العاصي، وكنهر لتاريخ سوريا وتحولاته منذ الطفولة، وأيضا كرمز أدبي قادر على أن ينطوي على بعد كوني يتعلق بمجرى الحياة ككل، كنت أشعر أنها آخر قصيدة في حياتي، ولكن لحسن الحظ أني كتبت بعدها الكثير».

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +