بردى ... نبيّ الماء!

بردى ... نبيّ الماء!

يقالُ إنّ الراحلَ أحمد شوقي، الذي كتبَ:


«سلامٌ من صبا بردى أرقُّ ... ودمعٌ لا يُكفكفُ يا دمشقُ» في يناير عام 1926 في حفلةٍ نُظّمت لإعانة منكوبي سوريا إثر ثورتهم ضدّ الفرنسيين، يُقالُ إنهُ كتبَ القصيدةَ قبلَ أن يرى النّهر، وحينَ أسعفهُ العمر وزار دمشق بعد ذلك، طلبَ أن يرى بردى، فما كانَ منهُ حينَ رآهُ –وهو ابنُ النيلِ العظيم- إلّا أن قالَ ساخرًا: «دا تِرعة يابا!».


وفي الحقيقة، فإنّ تاريخَ النهرِ يبدو أعظم من النهرِ نفسه، أقولُ يبدو، ذلكَ أنّ جيلَنا حظيِ ببردى لا يُشبهُ ما قيلَ فيه، ولا يستحقُّهُ أيضًا. فنحنُ أيضًا، أعني أبناء المدن والمحافظات السورية البعيدة عن دمشق، سمِعنا عن النهرِ قبل أن نراهُ، وفوجئنا حينَ قيلَ لنا إجابةً على تساؤلاتِنا عن الرائحة النتنة المنبعثة في أرجاء من دمشق القديمة، إنّ هذه الروائح مصدرها بردى! بردى؟! وأينَ نذهبُ بالقصائد التي قيلت في النهر؟!


مثلُ كلّ شيءٍ، اتّخذَ النهرُ أيضًا موقفًا من الاستبداد فأنتجَ ما يُشبههُ! قد يُعتبرُ هذا مجازًا لمواساةِ النفس، لكنّ الحقائق الكثيرة تقول إنّ السلطةَ السورية، وناهيكَ عن موضوع الجفاف، قد ساهمت بقتلِ نهرِ «اأبانة» كما وردَ اسمُهُ في الكتابِ المقدّسِ في سفر الملوك الرابع. ففي عامي 1997 و 1998 كاد وباءُ الكوليرا يصيب دمشق، قادمًا من النهر، الذي تحوّل إلى مصبٍّ لمياهِ الصرف الصحي، ومفرزاتِ المدابغ آنذاك. نعم، في أواخرِ القرنِ العشرين كادت الكوليرا تضربُ دمشق. يمكننا هنا العودة إلى المجاز بالقول: إن الطاعونَ لا الكوليرا وحسب، قد ضربَ هذه المدينة خلال النصف قرن الفائت!


ما سبقَ لا يُلغي أهميّة «بردى» بالنسبةِ لدمشق وأهلها حتى بداية حكم البعث. كما أننا لو أجرينا استعراضًا سريعًا لما قِيلَ في النهر، لوجدنا أن ياقوت الحموي صاحب معجم البلدان قالَ عنه إنهُ: «أعظم نهر في دمشق، مخرجه من قرية يقال لها قنوا من كورة الزبداني على خمسة فراسخ من دمشق مما يلي بعلبك، يظهر الماء من عيون هناك، ثم يصبّ إلى قرية تعرف بالفيجة على فرسخين من دمشق».


أما حسّان بن ثابت فقد قال:


يسقونَ من ورد البريص عليهمُ  ... بردى يُصفّقُ بالرحيقِ السّلسلِ


وقالَ جرير:


لا وردَ للقومِ إن لم يعرفوا بردى ... إذا تكشّف عن أعناقِها السّدف


وقالَ جورج صيدح 1893 – 1979


حلمتُ أنّي قريبٌ منكَ يا بردى ... أبلَّ قلبي كما بلّ الهشيم ندى


أمّا محمد مهدي الجواهري، فقد ذكرَ النهرَ في أكثر من قصيدة، فقال:


بردى كأنَّ برودهُ ... رشفاتُ معسولِ الرّضابِ


وكتبَ سعيد عقل واحدةً من أجملِ قصائدهِ، كانَ مطلعُها:


مُرّ بي يا واعدًا وعدا ... مثلما النسمةُ من بردى


تحملُ العمرَ، تُبدّدهُ ... آه ما أطيبَهُ بددا


ولم يفت الركبُ جوزف حرب، فكتبَ بدورهِ في صيغة مبالغ فيها عن النهرِ، إذ رمى عليهِ التحيّة:


نبيَّ الماء، خاتَمَ كلّ نهرٍ ... عليكَ من الصّحابيِّ السلامُ


ثمّ جاء دور محمود درويش، الذي أحبّ دمشق، فكتبَ عن نهرِها وعن نفسهِ فيها:


يدلُّني بردى الفقيرُ كغيمةٍ،


ويدلُّني شعرٌ فروسيٌّ عليَّ.


لقد كتبَ المؤرخون والباحثون والشعراء الكثير عن دمشق ونهرِها، ووفقَ قاعدةٍ تقولُ إنّ الغرباء يستطيعون الكتابة عن الأماكن أفضل من أهلها، فقد نجدُ آثارًا بديعةً لهؤلاء وسواهم عن المكان، لكنّهم وفي مرّاتٍ كثيرة كتبوا عن المكانِ ونسوا أهله. حتّى حقَّ للسوريين طوالَ خمسينَ عام من حكمِ البعث بأسديه، أن يرددوا ما قالهُ محمود درويش:


وبلادُنا في ليلِها الدمويّ جوهرةٌ تُشعُّ على البعيدِ، على البعيدْ


تضيءُ خارجَها، وأمّا نحنُ داخلَها فنزدادُ اختناقا.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +