عودة إنانا

عودة إنانا

سألَ بهدوئه المعتاد وهو يبتسم «أما تخشى أن يأخذها تموز؟»، أجبتُ: «أوه تلك أسطورةٌ سومريةٌ قديمة». صمتَ قليلًا، رفعَ رأسه وأردف: «وما أدراك ألا تتكرر الأساطير؟ ألا يمكن أن تحنَّ الأسطورة للعودة إلى زمنها الأساس أو العكس، طالما أن المكان واحد».


أجبت: «وما الخشية في هذا وذاك، كل ما في الأمر أن إنانا ستمضي إلى تموز، ومن ثم تعود كما الأسطورة».


«لا بأس إذن، سيكون اسمها إنانا».


في الآذار الخامس عشر من عمرها اخضرَّت الأرض، وتفتّقت براعم حريةٍ اشتمَّ رائحتها السوريون وخرجوا يهتفون لها. أصغَت إنانا، سمِعَت الهتاف، اشتمّت فيه رائحة حرية شعب، وحريةً تطمح أن تعيشها في مكانٍ أعور. ثارت مع ناسها وقررت أن تشقَّ عصا الطاعة، وتهبطَ من خديعة برج الحريم إلى ما يسمونه زورًا «العالم الأسفل، عالم المهمّشين». هتفَت معهم للحرية، وكانَ صوتها سلاحها.


اقترَحت على أبيها أن يكون هتافها غناءًا، أمسكَ خالد بيدها، كتبَ ولحّنَ وعزف على أوتار قلبه وعوده، أرسلت دفءَ فراشةٍ صوتُها من كل الألوان إلى «" target="_blank">محمد حاف محمدنا»، استنهَضَتهُ، كرّرت عدة مرات: «قوم... قوم... قوم... انهض يامحمد حاف» إيماناً منها أن الشهداء يسمعونها. بعدها أرسلت دفءَ حنجرتها لمن سهرَ يحرسُ الطرقات ليحافظ على ثورةٍ نظيفة، لـ«داعور سراقب: أحمد ممدوح العيسى». ومع تكاثرِ الرصاص والبارود وتعرّجِ الطريق بكت إنانا الحرية، لكن مسّ الغناء كان في حنجرتها، أخبرت والدّها أنها ستغني للورد، للعصافير، والفصول، فكتبَ خالد: «يا يمة جرح الياسمين ارتاح .. عصفورتك ما عاد إلها جناح».


لكنها احتجَّت؛ لماذا أيلول وليس تموز؟ خاتلَها من خوفٍ، لماذا تريدُ إنانا الغناء لتموز؟ ادّعى أن أيلول سرُّ الفصول، وأن «ليالي شتي» أيلول تشبه الأسود من عينيها. ابتَسمَت: «عيناي تشبه عماء البدء في العالم الأسفل»، دارى خالد خوفه مما دار في خلده، ليسَ دأبُ إنانا أن تتحدث عن تموز والعالم الأسفل؟ وأعاد: سنغني لأيلول لأنه سرُّ الفصول، دندنَ على عوده وغنّت: «عصفورتك أيلول يتمها الحرب... هدهد سماها، أخد قمرها وراح». ظنها أخطأت، صحَّحَ لها، «يتّمها البرد»، تابعت الغناء «عتّم سماها.. أخد قمرها وراح».


كلّما تكاثر الرصاص والموت كانت تنكفئ على ذاتها أكثر، أرادت أن تقول ذاتها غناءًا فأعلنت بحنجرتها الطرية: «" target="_blank">ليس سرًا .. أجمل الأشياء عندي غيمة حبلى بماء»، لا يهمني أين تهطل فأنا علائية النزعة، والمعري جاري وأقربُ إليَّ من أنانية الحمداني وقصور سلاطينه، لم تُخفِ إنانا عشقها للحلاج حيّاً، وكذلك عشقت فيه الفناء. بدوره صرّح خالد أنه عاشق «للأخضرية وإنانا السومرية»، لكن شيئًا ما يخِزُهُ عندما تغني إنانا هذه الجملة بالتحديد، فهي تلفظ حروفها بشكل مغاير، وتضغط النوتات بشكل مختلف.


تساءَلت إنانا مع خالد غناءًا «إلى متى.. وبعدين»، وعندما لم تجد إجابة قرّرت أن تكون آخر أغنياتها كما بدأت، فغنت لتشد الهمة «ياحرية هيلا هيلا»، وتوقفت عن الغناء لتكتب بخط عربي أنيق كما والدها «عامٌ جديدٌ بعيدٌ عمن عاث في العمر فساداً»، لكن حقدهم وهمجيتهم لم يدعاها تكمل عامها، فما كادت تنهي ترتيب سريرها صباحًا حتى هوى صاروخ على غرفتها لترحلَ أمها «فاطمة اسليم» مربية الأجيال ،وتبقى إنانا تحت الأنقاض تئن.


«كان الأنين موجعاً.. موجعاً يا أسعد»، هذا ما عبَّر به خالد، مخاضُ عودة إنانا إلى مكانها الأول كان عسيرًا، خمسة عشر يومًا في المشفى تأن وتتألم، إنه ألم المخاض، قال خالد: إنها ستعود لأن أمها افتدتها بروحها، وتابع: «اليوم همستُ لها حبيبتي عودي، وأظنها سمعتني وعرفتني فقد حركت بعض أعضائها». لكن إنانا اتخذت قرارها في اليوم التالي بهدوء أبلغ من الصمت، رفرفت عصفورة أيلول وراحت تعلو رويدًا رويدًا، جُنَّ خالد وهو يراقبها، ظنّ أن عيناه خانتاه، صرخ بكل صوته «إلى أين... إلى أين... إنانا... إنانا... إنانا».


حدّقت بعينيها الواسعتين مبتسمةً: «إلى حيث كنت، إلى مكاني الأساس، سأعودُ إلى الأسطورة، إنانا السومرية، نجمةُ الصباح والمساء وكوكب الزهرة».


هكذا هي الأسطورة، بهدوءٍ قال خالد: «أق...ر..ئي ماما السلام، فهي هناك بهدوء»، فأجابت: «سأبلغ السلام لها ولحاف وللداعور وأسعد وأمجد وكل شهداء الحرية، وبدوركَ بلّغ السلامَ لسلامة وسنابل وكل السوريين، وأخبرهم أن يوصوا أحفادهم أننا سنعود مهما طال الزمن، وشارة عودتنا أصواتٌ عذبة آتية من السماء تنشد (جينا وجينا وجبنا الحرية وجينا)، سأعودُ سمفونيةً بنكهة شرقية عنوانها إنانا السومرية، وستعزفها اوركسترا أطفال سراقب في المكان الذي ولدتُ فيه، فكلُّ من سكنَ هذا المكان قرأَ ورسمَ وعزفَ وغنّى، وسيكون ولو بعد ألف عام دارٌ لكل هذه الفنون». وراحت ترتفع بهدوءٍ وترنُّ في مسمع خالد وهو شاهقُ النظر إلى السماء، «سنعود.. سنعود.. سنعود»، ومازال خالد كل يومٍ ينظر إلى السماء، يراقبُ كوكب الزهرة، إنانا السومرية.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +