أشياء على سبيل التعويض

أشياء على سبيل التعويض

صباحاً حينما دخلتُ «الماركت» في مدينتي الألمانية الصغيرة, لفتَ انتباهي فور دخولي مجموعة عناوين لكتبٍ باللغة الألمانية, اللغة التي لم أتعلّمها بما يكفي للقراءة بها, لكنّ ما فعلتهُ بلا تردّد كان شرائي لتلك الكتب وكأنّها كانت تنتظرني, وكأنّ سبب دخولي في ذلك الصباح إلى الماركت كان شراءَ تلك الكتب لا غير.


الأمر كان بالنسبة لي عملية تعويضٍ عن كتبي التي تركتُها حين غادرتُ منزلي في حلب, وتلك الكتب التي تركتها أيضاً في منزلي في تركيا. شيءٌ ما سيعوضُ عن شبيه له، هذا ما قلتهُ لنفسي بعد أن وصلتُ غرفتي، وأدركتُ أنّني لن أتمكّن من قراءة هذه الكتب قبل مرور عامٍ على الأقل حتى أتمكّن من اللغة, لكنني وضعتها على رفٍّ أعلى سريري على أي حال, لتؤنس وحشة فقدانٍ قديم, فلا بُدَّ للأشياء، كلّ الأشياء أن يكون لها بدائل حتى لا نموت وراءها.


صديقتي «أمل» المقيمة في حلب, ترفضُ المغادرة رغم كلّ الظروف المعيشية السيّئة التي تحيط بها في ذلك الجحيم, تبرر ذلك: من سيعتني بقطتي الصغيرة حين أغادر!؟ «أمل» وجدت في القطة التي تقوم بتربيتها منذ عامٍ تعويضاً عن ابنتها التي فقدتها بقذيفةٍ طائشةٍ في حي السليمانية الذي تقيم فيه, هي فعلت كما يفعل معظمنا عندما نشعر أنّ الفقدان أكبر من القدرة على التحمّل, بَحَثَت عن التعويض. تعويضٌ مهما كان ضئيلاً فإنه قد يخفّف عن قلبها مرارة ذلك الفقدان.


بطريقةٍ متشابهة، تبحث  كلّ الكائنات البشرية عن تعويضٍ لما تفقده, ذلك المفقود الذي يتجاوز قدرة البشر على تقبّلهُ, المفقود الذي يصبح غيابه أكثر أثراً في حياتنا في أزمنة الحروب, الحروب التي تصنع بشراً قساةً في الظاهر, شديدي الهشاشة من الداخل, سريعي العطب, وجاهزين لتقبّل أنصافِ الحلول والأشياء في حياتهم. الحروب التي تصنعُ عوالمها الخاصة، والبشرُ الذين يُشبهون بشاعتها بعد كلّ خسارة, البشرُ الباحثون عن أصغر تعويضٍ للتمسّك به كي لا يخسروا إنسانيّتهم جرّاء ألم الفقدان المستمر.


يقول واحدٌ من أصدقائي: يجب أن نشعرَ بخسارتنا كاملةً, أن نعيشها حتى آخر الوجع, لنكون قادرين على معالجتها بطريقةٍ صحيحة، يحب أن تكتمل الخسارة بلا تعويض, يجب أن نشعر ببشاعتها حتى نكون قادرين على البدء من جديد. يبدو رأيهُ صائباً جداً من بعيد في زمن السلم, لا في زمن الحرب الذي يبحث الفرد فيه عن عزاءٍ ينقذه من الجنون الذي تتسبب به عملية الطحن التي تديرها الحرب. أتذكرُ أنني حين كنتُ في حلب, كنت أنام كلّ ليلة على أصوات طائرات النظام وهي ترمي البراميل على حيّ الأشرفية المجاور للحي الذي أقيم فيه «السريان», كنتُ أستيقظُ كلَّ صباح بعينين متورّمتين كأكياس الشاي, كان البكاء في ذلك الوقت, في ذلك الجحيم، تعويضاً مقبولاً عن إحساسي بالعجز تجاه القتلى الذين يموتون في الحي المجاور ببراميل النظام وجيشه الذي يضع حواجزه قرب مدخل بيتي.


لولا البكاء، لولا عينايَّ المتورّمتان في تلك الصباحات, لكنتُ اليوم في سجلات المنتحرين أو المجانين, لكانت سيارة الأمن العسكري التي رميت نفسي ذات مرّةٍ أمامها طحنت عظامي في ذلك الجحيم الذي هربت منه. لذا كان لا بدّ من التعويض، لأن السؤال كان دائماً على الشكل التالي: ماذا سيحدث لو توقفت عن البكاء!؟ ماذا سيحدث لو توقّفت صديقتي عن تربية قطتها، وسافرَت خارج البلد، بعيداً عن جحيم الحرب!؟ ماذا سيحدث لو توقف كلٌّ منا عن البحث عن تعويضٍ لمفقوداته وخساراته, وعاشَ ألم الخسارة حتى آخر الكأس!؟ هل سنكون قادرين على الخروج من الخسارة والحرب أسوياء أكثر، وهل ستتوقّف حاجتنا عن البحث عن التعويض!؟ هل يحتاج الموت الذي نعايشه كلَّ يوم في بلادنا أيضاً لأيِّ تعويض، أم أنّ الموت خارجَ دائرة عملية المقايضة تلك!؟


أفكّر.. حين أموت لن أحتاج للقيام بأيِّ تعويضات، لن أحتاج لما قمت به سابقاً في حياتي لأعوّض مفقوداتي, الموت كما الشعر، لا يقبلُ المقايضة أبداً.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +