البندقيّة والمخيّلة العربيّة

البندقيّة والمخيّلة العربيّة

ساهم صعود الإنترنت في جمع أكبر عدد ممكن من الخرافات الشعبية ووضعها في متناول اليد. وصار بإمكاننا التعرف على طرائق تفكيرنا في طرح التساؤلات الكبرى والصغرى. ولأنّ هذه الشبكة تتغذى على نفسها في صناعة المعلومة، بات بوسع الجميع أن يستفسروا عن أي شيء غامض ويجدوا له إجابة أو شرحًا يتفاوت في دقّته وبيانه، وذلك لأنّ بوسع الجميع أيضًا أن يقدّموا آراءهم أو تخميناتهم في موضوع ما، وهذا ما يجعل الإنترنت مصدرًا غير موثوق بنسبة تامة، لأن المعلومة الحقيقية لها ثمنها وتتطلب بحثًا علميًا صبورًا لا يروق لمستخدم الإنترنت المستعجل. قد تثلج الإجابة المتسرعة صدرك وتظن أنك وضعت حدًا لما كان يشغل بالك، بل وقد تفاجئك الطرافة حيال العديد من الدردشات التي يقيمها الأعضاء في بعض المنتديات الافتراضية.


ففي تساؤلي «لماذا يطلق العرب اسم البندقية على مدينة فينيسيا؟» وضعني غوغل على مقربة من نقاشات طريفة تعكس بمجملها لجوء مرتادي النت إلى «المخيّلة» في تقديم إجابة ساذجة دون التفكير بعواقب تأنيب الضمير الذي نادرا ما يتعرض لنوبات يقظة معرفية. ويعمد هؤلاء إلى تفسير الماء بالماء دون بذل أدنى جهد: فإذا كان للسؤال غاية لغوية فلابدّ أن يتعلق الجواب باللغة العربية حصرًا.


من أحد الأجوبة على سؤالي أعلاه: -«لأنها اشتهرت بصناعة البندقيات عبر التاريخ». هذا التفسير يخلو من الأمانة التاريخية، فالمدينة صنعت الأسلحة لكنها اشتهرت بصناعة أشياء متعددة. ناهيك عن أن اسمها في باقي اللغات الأخرى يبقى «فينيسيا»، فكيف لها أن تشتهر بصناعة البندقية عند العرب دون غيرهم؟ ثم إن العرب كانوا يسمّونها هكذا منذ الحروب الصليبية أي قبل اختراع السلاح الناري بقرون.


لكن المجيب يبرر وجهة نظره متسائلًا: «ألم تقرؤوا مسرحية «تاجر البندقية» لشكسبير؟» ظنًا منه أن شايلوك (اليهودي للمفارقة) تاجر أسلحة جشع وعديم الإحساس ويعيش في مدينة تحمل اسم المواد التي يتاجر بها.


إجابة أخرى: -«لأنها اشتهرت بزراعة البندق». وهذا التفسير يخلو من المنطق، لأن البندق ليس بالشجرة التي يسعى الإنسان إلى زراعتها بشكل حثيث. إذ ينمو شجر البندق في الغابات مثل الصنوبر والأرز.


«ربما لأنها مشهورة بتصدير البندق أو استيراده» إجابة أخرى تصلح لأي مدينة في العالم يدخل البندق في لائحة نشاطاتها التجارية، ولم يحدث أن اعتمدت فينيسيا على البندق في معيشة أهلها حتى يشتهروا بإدمانهم عليه.


فما لغز اسم هذه المدينة العجيبة؟ لو رضي العرب بالاسم الأصلي «فينيسيا» لما وصلنا إلى هذا النقاش. فالأزمة تكمن في أن للكلمة معنى في لغتنا، وتحتوي على أداة التعريف والشدّة وياء النسبة والتاء المربوطة، مما يجعلها أقرب إلينا من كونها اسم مدينة أوروبية. فلا نجد مثل هذا الجدل المستمر حول لندن وباريس وبرلين حيث نقلنا المفردة كما هي من لغتها الأصلية.


حسنًا، سوف نحاول أن نقدم تفسيرًا منطقيًا وموجزًا. في البداية، تعود كلمة فينيسيا لإحدى القبائل الإغريقية التي هاجرت من اليونان واستوطنت شمالي غرب إيطاليا في سالف العصر والأوان، حتى أن أهالي البندقية يفخرون بأن قبيلتهم ورد ذكرها في أشعار هوميروس. أسس الفينيتيون دولتهم وبنوا حاضرتهم Venezia التي أخذت اسمهم، وظلت مقاطعة البندقية إلى يومنا هذا تدعى «فينيتو» Veneto. الأمر الذي نجد له مقابلًا في اللغة العربية كالمملكة «السعودية» نسبة لآل سعود والأردنية «الهاشمية» نسبة للهاشميين.


مرت هذه الدولة بأطوار مختلفة وقامت فيها أنماط متعددة من الحكم قبل أن تنصهر في الدولة الإيطالية التي وحّدها غاريبالدي أواخر القرن التاسع عشر. ويبدو أن هذه الدولة، في أوج تواصلها مع العالم العربي، خضعت لسلطة الدوق. وكما نطلق اسم المملكة على الدولة التي يديرها الملك، والجمهورية على دولة الجماهير أو الشعب، فإننا نطلق اسم الدوقية على الدولة التي يحكمها الدوق. وجرت العادة أن يصف الوالي ولايته بأنبل الأوصاف: وهكذا جاءت هذه الكلمة المركبة الـ«بون – دوقية» من Buon-Ducato  أي الدوقية الخيّرة أو الفاضلة إذ أن Buon هي كما نعرفها في Buongiorno «صباح الخير». وهذا أيضًا نجد له مقابلًا عندنا كالحكومة الرشيدة في سوريا والعتيدة في لبنان. كانت لدولة فينيسيا علاقات مهمة مع العالم العربي في كافة المجالات وتستخدم اسمها الرسمي في المراسلات الدبلوماسية Buonducato di Venezia أي «دوقية فينيسيا الفاضلة»، حرفيًا «بون دوقية فينيسيا» ثم تم اختزالها إلى «بون دوقية» فـ«بُندُقية». ما يعني أنّ العرب تبنوا اللفظ كما يستسيغه لسانهم واستبدلوا اسم المدينة بصفتها، وهم الذين لطالما ألصقوا الصفات الطيبة بمدنهم: مكة المكرمة، المدينة المنورة، دمشق الفيحاء، حلب الشهباء، مصر المحروسة، تونس الخضراء، غزة الأبيّة وحمص العديّة مؤخرًا... إلخ


لا يبدو أن تفسيرًا منطقيًا كهذا يحتاج إلى معجزة كي يعمّم في العالم العربي إذا دعمناه بمراجع تاريخية موثقة. لاسيّما أن الإيطاليين أنفسهم يتعجبون من هذه التسمية ويرونها مثيرة للاهتمام وفريدة من نوعها واستثنائية أكثر من كل الألقاب التي يستخدمونها في وصف مدينتهم الساحرة. والحال أن الطريقة الرائعة التي تم فيها تعريب الاسم هي التي تثري المخيّلة، والبحث عن حقيقته ينمّي المعرفة ويزيده أصالة أكثر من تلك المعتقدات السطحية الخاطئة التي ينعدم فيها الذوق حين يهرف المرء يما لا يعرف.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +