السوريون وسباق المسافات الطويلة

السوريون وسباق المسافات الطويلة

عندما انطلقَ السوريون في مواكب الانعتاق من نير الطغيان، لم يكن ذلك استناداً إلى قرار اتُّخِذ في مكاتب بيضاوية أو مستديرة أو مقعرة، بل كان ذلك تعبيراً حقيقياً وصادقاً عن توقٍ طال أمده لاكتشاف الذات. كان محاولةً لدخولِ عصرٍ باتوا غرباء عنه، رغم انفعالهم وتأثرهم بكل منجزات حضارته المادية والتكنولوجية التي كانت الانعكاس العملي لحرية الفرد وحق المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان.


غابت الأحزاب والعقائد والبرامج واللوائح والانتماءات العصبوية والجهوية، وتوحّدَ المجموع في ساحات وشوارع المدن والبلدات والقرى، في مماهاة  مع الذات والعقل -الكرامة- التي أعطت اسمها لذلك الزخم الفريد، وكان ذلك فعلاً سورياً فقط.
شلالُ الدم الذي جرى، والعنف الذي جوبهت به الجموع، قابله إصرارٌ وتصميمٌ يماثله ويقابله بالقوة والعناد، الأمرُ الذي فتح الباب واسعاً لتدخلات القوى والمصالح التي وجدت فرصتها الذهبية في ذلك، فانزاحت الشعارات المطلبية والحراك المدني ليحل مكانها العنف وتدفق السلاح والمال والمقاتلين من أنحاء الأرض، حتى أصبح السوريون غرباء عما يحصل في بلادهم.
لكن ذلك لم يُلغِ حقيقة وجود الوطن والشعب، والإصرار على تحقيق حلم إنهاء الاستبداد، ومضت محاولات الانتظام في هيئات وتشكيلات سياسية بموازاة السلاح والعنف. ورغم كل الأخطاء والعثرات والتدخلات وتضارب مصالح القوى المؤثرة، إلا أن المسار بقي صاعداً بوضوحٍ تدل عليه هياكلُ وتعبيراتٌ تتطور كل يوم، فمن تنسيقيات الثورة ولجانها إلى المجلس الوطني وهيئة التنسيق والائتلاف والتيارات والمنظمات بمختلف مسمياتها ومواقعها، والتي  تتمحور جميعها حول خط وطني عريض يتبنى الشعارات والطروحات ذاتها، إنما بأساليب وأشكال مختلفة تفضي كلّها بالنتيجة إلى حتمية التغيير وبناء الدولة التعددية الديمقراطية الحديثة.
كان انعقادُ ونجاح مؤتمر الرياض بالخروج بوثيقة موحدة خطوة مهمة ومتقدمة في سيرورة العملية السياسية التي ابتدأت كما أسلفنا مع بداية الثورة، ولم تتوقف وستظل تتواصل حتى تحقيق أهداف السوريين، حيث ضم المؤتمر ولأول مرة أوسع وأهم تمثيل حتى الآن  لفئات ومكونات الشعب السوري السياسية والاجتماعية المدنية والطائفية والعسكرية، ملغياً بذلك ثقافة احتكار التمثيل الشرعي  للشعب التي هي أصلاً من مخلّفات النظام البائد. وبقي المراهنون بما فيهم الروس والإيرانيون وغيرهم يبشرون بعدم الجدوى وانسداد الأفق حيال ذلك، ويفبركون الملاحظات والتعليقات حول علمانية الدولة أو تمثيل الفصائل الإسلامية، والحقيقة أنه لو لم يحصل ذلك لبقي التمثيل ناقصاً ومبتوراً، فهي قوىً موجودة وفاعلة على الأرض، وتضم سوريين حملوا السلاح وبذلوا دماءهم لتحقيق مطالبهم كما يرونها هم، وليس كما يراها لهم غيرهم، وهذا حقٌ لهم.


الأمرُ الآخر أنهم لم يختلفوا بعد على الكراسي والحقائب السيادية، وجُلَّ ما في الأمر أنهم يتوحدون بهدف التغيير، وحين يحصل سيكون على كل منهم توضيح رؤيته والعمل لتحقيقها، وستكون هناك مراحل كثيرة وعقبات أكثر، وستكون أيضاً تحولات لا يمكن التكهن بها واستباق حسبانها قبل أن تحصل. ويمكن القول إن الاختلافات التي كانت ومازالت تعكر وتعيق العملية السياسية، هي نتيجة تدخلات خارجية دولية وإقليمية، ولو تُرِكَ السوريون بمفردهم لاستطاعوا الاتفاق والخروج بنتائج ملموسة وفاعلة أضعاف ما توصلوا إليه حتى الآن رغم أهميته.


إذن فالعملية السياسية موجودة منذ البداية، ولم تتوقف، وهي سوريةٌ بامتياز، ولم تنتظر وصفات غربية أو شرقية تقولُ للسوريين إن الحلّ في بلادهم سياسي. السوريون يدركون ذلك، ويدركون أن هذا العنف لابد سينتهي وسيجدون أنفسهم أمام استحقاقات ومسؤوليات أكبر من تلك يحدّثهم الآخرون عنها، وسيكون ذلك هو الاختبار الحقيقي لجدارتهم في ترجمة رؤيتهم لمستقبل وطنهم المتعدد، وإيجاد هويتهم الوطنية التي طالما حلموا بها.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +