ننقل لك الحدث بالصوت، لتكتمل عندك الصورة

ننقل لك الحدث بالصوت، لتكتمل عندك الصورة

أنتَ مزيّفٌ حين تكون مواطناً صالحاً، ومزيفٌ حين تكون غريباً لا يستطيع تجاهل تعريف نفسه: «من أنا؟»


تفكّر أنّ الوطن هو جمع الأفكار التي تربّيت، ذاكرتك التي تجيء محمّلة بالوجوه والأمكنة والتفاصيل... وكعادتك تكمل طريقك إلى عملك متجاهلاً ماكتب على اللوحة الإعلانية «نريد أملاً لا ألمًا»، وصورة طفلة تحتضن دميتها فوق حطام.


 «مؤتمر آخر للمانحين». الصورة فاحشة التعبير، واللوحة لاتفرق بين وجه طفلة سورية وامرأة ترتدي معطفاً شتويًا بنصف السعر في عروض نهاية العام. تسأل نفسك: لماذا لاتكون اللوحة شاشة تستأنف عمل الأخبار العاجلة؟ تسخر من جهلك بهندسة الصورة ووسائل التأثير. «نريد تعاطفًا لا غضبًا». هذا هو المهم!



الناس الذين تبتسم في وجوههم يصدقون ذلك الإعلان، كما يصدقون الأخبار السارة التي ستأتيهم بعد عشرين  دقيقة من قراءة أذكار الوتساب، الواتساب الذي يذكرني دوماً بعجزي، فينخرني البرد حين يبعث لي أحدهم صورة لطفلٍ آخر في شتاء اللجوء ورقم حساب مصرفي لحملة إغاثة مذيلاً بعبارة: «أغيثوا إخوانكم السوريين».



تتجاهل اللوحة التي تراقبكَ، تتلفت حولك خوفًا من نظراتٍ تقارب بين عجزك ووجه الطفلة. تتوقف عند الإشارة الضوئية مع صوت المذيعة يقرأ نشرة الأخبار: «ننقل لك الحدث بالصوت لتكتمل عند الصورة». اكتملت الصورة شكراً لك، لكنّ الصوت مربعٌ مفقود من الصورة الّتي تراها، وجمعُ مربعاتٍ مفقودة في حديث الناس الذين أبتسم في وجوههم.


في العمل يسألني أحدهم بعد صباح الخير وأحياناً قبلها: ما الذي يحدث في الرقة؟ هي الرقة بلدك دي فين؟ أهلك هناك ولّا طلعوا؟


يقترب مني أحدهم يسألني: كيف أهلك؟ أجيب وكأنني أدفع عن نفسي تهمة الخيانة اغترابًا. أستفيض شرحاً في الحديث عن المسافة التي تفصل أمي عن أبي، والمسافة التي تفصل أخي عن أولاده، قبل أن أنتبه إلى أني استفضت بتعريف نفسي. يقول لي: «ربنا يعين». أجيب ولساني يلوكه كلبٌ جائعٌ: «ونعم بالله!»



هو ذاته الذي يسألني يرفع يديه بالدعاء انتقامًا وانتظارًا ،أرفع يدي مع الجمع كأنّني أدفع عن نفسي تهمة الخيانة اغترابًا مرّة ثانية. يتحدثون عن وطني متجاهلين وجودي، يفّصلون لي وطنًا على مقاس تصوراتهم ومرجعياتهم. يتشاجرون. يرى أحدهم ضرورة تكثيف القصف الجوي مع اقتحام برّي، أكاد أقول: لكن أهلي محاصرون هناك. يهمس في أذني: في شوية ثياب في السيارة، إذا تعرف حدّ يوصلهم لسورية؟ ولأنني سوريّ يجب أن أعرف !



تخشى أن تستوقفك دورية للشرطة، يتفحّص الشرطي أوراقك ويعيدها وهو يقول: «روح يُبا الله يثبتكم وينصركم»، تتمنى أن تقول له: «خالفني مشان الله». وبابتسامة أتناول أوراقي، وطعم «آمين» في حلقي مرّ ولزج، آمين التي تجيء هي الأخرى مزيفة كتعريفك لنفسك !



معطفك امتياز، قميصك الأبيض امتياز، فنجان قهوتك امتياز، نظارتك الماركة امتياز، ساعتك الّتي أهدتكَ إياها زوجتك في عيد الحب امتياز، علبة سجائرك امتياز، هاتفك المحمول امتياز، فحشك في حضن زوجتك امتياز، همهماتك البذيئة في ذروة النشوة امتيازُ، وجعك في الدفء امتياز، كوابيسك في فراش وثير امتياز...


 سوريتك امتياز القهر والتجاهل، أنت ابن مأساة القرن الحادي والعشرين!


 وأنت مشهورٌ جداً!


 ثمّ إذا ضحكتُ وضعت يدي على فمي، ثم وضعتها على وجهي كلّه.


هنالك جزءٌ من الصورة  مفقود، لا يكتمل بصوت المذيع الذي ينهرني حين ينتقل بعد الموجز إلى نشرةٍ مفصّلة للأخبار!

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +