أطفال المنافي وامتحان الشتاء

أطفال المنافي وامتحان الشتاء

لا أعرف لماذا تنظر هذه الأمة في اتجاه واحد، وكأنه لا يحق لها أن تلتفت! منذ عام 1948 والنكبات تلاحقها، بعضها من صنع قادتها، والبعض الآخر من صناعة الأعداء. دخلت معترك القرن العشرين بنكبة، خلفت مليون ونصف لاجىء، بينهم أكثر من 560 ألف طفل، وتتالت النكبات، وكنّا لكل نكبة نبتكر اسماً يميزها عن سابقاتها، وها نحن ندخل حرم الألفية الثالثة، بالقدم اليسرى، فالقدم اليمنى تعثرت بتقرير منظمة اليونسيف لعام 2012 الذي يقول إن 13 مليون طفل من العراق وسورية واليمن وفلسطين وليبيا والسودان أصبحوا خارج المدارس! علماً أن منظمة اليونيسيف لا تستطيع الوصول إلى كل المناطق بهذه الدول. أما تقريرها لعام 2014 فإنه يشير إلى أن الصراع في سورية وحدها، أثّر على 5،5 مليون طفل، وكلمة «أثّر» هذه، التي جاءت في التقرير، تعني أن البعض منهم قضى نحبه، والبعض انصرف إلى العمل، وثمة من جرى تجنيدهم، وهناك من أصبح متسولاً، إلى غير ذلك من مهن الشوارع الخلفية للبؤس. هذا متن النص، في الهامش ثمة عناوين فرعية، ليس أخطرها نبش حاويات القمامة بحثاً عن طعام! وكأنه ثمة من يريد تحطيم الأطفال،  ليصبحوا غير صالحين لأزمنة أخرى!


في مخيمات اللاجئين العشوائية في /لبنان/ رأيت دوافع التسوّل، كما لم يشرحها أحد! بما في ذلك تسوّل الرحمة والشفقة، رأيت البؤس بكل أشكاله، وتجلياته. أما في سورية  فقد رأيت اليأس «منتصب القامة يمشي»، وعيون الناس تراقب تباشير الشتاء، بحذر وخوف. وكأن متلازمة القهر السوري لم يعد لها مضادات اجتماعية أو إنسانية، أما تلك المضادات الحقوقية، فهي لا تساوي الحبر الذي كَتبَها! فالمأساة لم تجرد الأطفال السوريين من ابتساماتهم وحسب، لا بل من أحلامهم أيضاً. فقد أكّد تقرير اليونسيف إن معدل الضحايا من الأطفال كان أعلى معدل سجل في أي صراع وقع في المنطقة في الآونة الأخيرة، وما زالت أصابع الأسئلة تبحث عن كفّ يتبناها! ولا أحد يمشي في طريق الظلام هذا، سوى تقارير المنظمات الدولية، والتحقيقات الصحفية. أمّا القرارات القابلة للتنفيذ، فلم تأخذ مصير الناس في حسابها، وكأننا مجرد أرقام نتبادل المواقع، نتحول إلى لاجئين بموقع، ونازحين بموقع آخر، وقتلى في كل المواقع. أما الوطن فقد تحول إلى ذاكرة إنشائية، وقد انتهت مدة صلاحيتها، لدى الكثير ممن غادروه برفقة امتيازاتهم. وتركوا لنا ساحة الصراع في معركة الأمل.


«تنسيم» ذات الخمس سنوات، في مخيم بر الياس، تلبس بقدميها حذاءًا بدون جوارب، وتفتقد لعبتها، وجواربها التي تركتها في «حي الوعر». أما «ميادة» ذات السبع سنوات، والبنطال الرّث، التي ما فتئت ترفعه، وهي تتحدث إلي، فقد تحدثت بحكمة أصحاب الخسارات الفادحة، فهي تفتقد «والدتها» التي بقيت تحت الأنقاض، في ريف حلب. أمّا أحمد الذي قدم من دير الزور إلى اللاذقية برفقة والديه، ومن بقى من أخوته، فقد قدّم استقالته من المدرسة إلى أجل غير مسمى، وصار يعمل «صبي نارة» في أحد المقاهي! هذا الطقس المناسب جدا لهطول الحزن، جعلني أستحضر كل البكاء المؤجل، وأنا أتساءل عن كمية البراءة الموجودة في هذا العالم، وكم ستتضاءل؟! وكيف ستصمد طفولتهم أمام مجرى هواء الوطن، قبل أن يقضوا نحبهم جراء نزلة برد، تصفع أمهاتهم فتقضين بدورهنّ في نزلة قهر.


أي وطن هذا الذي لم يستطع رحمه أن يأوي طفولتهم، وتركهم ينامون تحت أنقاض الكلام.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +