رسالة من الرقم ستة آلاف وواحد

رسالة من الرقم ستة آلاف وواحد

لم نحلم بأكثر من مدينة هاربة من الخراب، نطيّر فيها الهواء قبضة قبضة، ونتلصص مثل الأمهات الخائفات على أولادهن من الذئب، لم نحلم بالنهر الصارخ بالحصى، ولا بجنيّة الماء حين تلتهم صورنا المنعكسة على صفحة شفيفة، ولا بالقيظ ليجف غسيلنا ويلوح وجهنا المالح.


هل دخلتَ موتًا وشيكًا؟


هل التقيت بغريب هناك وقصصت عليه حكايتك «إن الغريب للغريب نسيب».


أنا الرقم ستة آلآف وواحد، البدوي الذي اختلطت تسمياته، أنا ابن الطين.


ستة آلآف وواحد، بعلامتي الفارقة التي ستتعرفون من خلالها عليّ. شق طولي في عظام القفص الصدري جراحة قديمة لقلب مفتوح. حين نزع الأطباء قلبي وعلى طاولة مجاورة  قصوا وألصقوا، ثم أعادوه إلى مكانه، لم يخطر في بالهم يومها بأنهم بذلك سيدلونكم عليّ فيما بعد من خلال هذا الشق. هذا ما تعرفونه بالضبط، لكنكم لاتعرفون كيف ساقوني إلى المحرقة وعدد الأيدي التي احتجزتني وتأبطت ذراعي وغطت وجهي؟!


لقد وقعتم بين فكي وحش مفترس تسمونه عبثًا الانتظار.


أعرف أكبركم منذ ستة وثلاثين سنة حتى صارت قامته أطولَ من قامتي.


لا تخافوا عليّ، لقد فتحوا لي ومنذ الليلة الأولى علبة في العتمة لكي أرى، لكنني لم أرَ. نظري ليس ضعيفًا كما تعلمون والنظارة في جيب سترتي الداخلية للقراءة فقط بحكم السن وأشياء أخرى، عمري الآن... أقصد أنا الرقم ستة آلآف وواحد، عمري الآن ستون عامًا. رهين المحبسين أنا البدوي ابن التغريبتين، ببداية النكسة عام 1967 والآن تغريبتي الثانية التي بدأت في العام 2012.


حين تنتهي هذه الحرب سأحكي لكم الكثير.


أقسم لقد أخبرتهم بأنني غريب هنا، ولا أعرف غيري، بينما كنت أعرف الكل هناك.


يا أولاد: علبة الدواء خاصتي المرصوفة بشكل جيد نفذت منذ الأسبوع الأول، لا تقلقوا لازلت بخير. نعم كنت أعطش وتطاردني الأفاعي تمنع عني الماء، ألقي بدلوي كل ليلة لكنهم يقطعون الحبل.


تدرون، الوحدة مرض مضاعف، لكنه ليس مُعدٍ فهو ليس كالجرب الذي أكلني. كل مايفعله السجان هنا يفعله بإتقان مطلق. يومًا ما سيمنحني حريتي ويهبني سجنًا أبديًا أحمله أينما توجهت.


لدي سؤال أريد توجيهه إليكم: هل ما فعلناه حتى لا ندخل السجن يساوي ما نفعل حتى لا يكون السجن أصلأ؟


أتذكر الآن رواية شرق المتوسط (لعبدالرحمن منيف) أنا ذلك الميت الحي قبل أكثر من ثلاثين عامًا. كلام، مجرد كلام... ولأن الأمل تسلية العاطلين عن الفرح. لم يعرف هؤلاء الروائيون كم تساوي الصفعة. هل يمحو الكلام آثار الجلد والحرق والجوع من جسد بال.


هل تفتح الكلمة كوة في زنزانة ليدخل بصيص شمسٍ واحد؟!


يا أولاد كفوا عن نخر عظامي ولا تدوسوا إصبعي بكعوب أحذيتكم. الاحذية ،اللغة السرية التي لم نفهمها نحن الأرقام. أتذكر الآن تلك الرواية وبشدة وأتذكر كيف حكت كل ما لم نقله «الحكومات كالبغايا، فالبغي تذهب مع من يدفع أكثر».


أعرف كيف تفكرون؟


كيف يصير الآباء أرقاما؟!


وكيف سنصير يومًا رواة يجتمع حولنا السميّعة، ويتأسفون بإشارة من رؤوسهم وعضّ على شفاههم.


ذات يوم ستطلقني يدّ مجنونة، سأخرج إلى الصباحات الباكرة جدًا، عاريًا إلا من سروالي الداخلي، وداء الجرب يأكل جسدي وشعر رأسي وذقني، وأهرع إلى أول شارع ألتقيه، هذا إن تذكرت الشوارع، صباحًا خاليًا إلا من عمال النظافة وسائقي سيارات الأجرة، وبهيئتي هذه، ما من سيارة ستقل الرقم ستة آلآف وواحد!.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +