أرونداتي روي، كاريزما المرأة الهندية

أرونداتي روي، كاريزما المرأة الهندية

أواخر التسعينات، في بغداد، كنت أشاهد على الدوام رواية «إله الأشياء الصغيرة». وفي أماكن مختلفة تقريبًا. بين الكتب في رفوف المكتبات، بين أيدي قراء، في بسطات سوق السراي. لكن لم يخطر في بالي أبدًا أن أقرأها. بل ولا أعرف حتى ما هو محتواها. أما اسم الكاتبة، أرونداتي روي، فهو اسم لامع ضمن لائحة طويلة من الكتاب الهنود الذين أطلوا علينا في أعوام الثمانينات كجزء من ثقافة عالمثالثية، تعنى بالاهتمام بالآداب غير الأوربية. وهي سياسة في الغالب، ذات بعد قومي، مؤسسة على معاداة الغرب والحداثة الغربية، إلا إنها لم تنجح في زعزعة مكانة الأدب الأوربي لدى جيلي على الأقل، ولدي أنا شخصيًا، فقد كان اهتمامي منصبًّا على الأدب الأوربي، ولا سيما الأدبين الفرنسي والإنكليزي، وبدرجة ما الألماني، وبدرجة قليلة جدًا الأدب الإيطالي والإسباني.


لكن بعد أعوام قليلة، ومع اكتشافنا لتيارات جديدة في النقد، مثل منهج الدراسات الثقافية، ومناهج الدراسات المابعدية، مثل ما بعد البنيوية، وما بعد الكولنيالية، وما بعد الحداثة، صار من الضروري الانتباه إلى الآداب غير الأوربية، وربما عزز من هذه النزعة، الدراسات التي نشرها الناقد الماركسي الأميركي فريدريك جيمسون عن الثقافات العالمثالثية أواخر التسعينيات، وقد عد الآداب فيها، ولا سيما الرواية، جزءاً لا يتجزأ من المراجعة القصوى للحداثة الغربية، أو أنها تصب في النهاية، في تيارات ما بعد الحداثة، وهو اعتراف، أو إسهام في تقويم الحداثة الغربية ومراجعتها من قبل الثقافات اللاغربية.


عند ذاك ومن بين روايات عديدة لفتت انتباهي رواية إله الأشياء الصغيرة لأرونداتي روي، والتي حصلت في العام 1998 على جائزة البوكر، وكانت بالنسبة لي هي المدخل الذي أدخلني إلى منهج الدراسات ما بعد الكولنيالية في الرواية، فكانت تتصدر بحق، على الأقل ذلك الوقت، أكثر الدراسات التي تنحو هذا النحو، وكان من الضروري أيضا الدخول إلى عالم الهند من زاوية مختلفة كليًا عن زاوية سلمان رشدي.


وقد بهرتني الرواية، في واقع الأمر لاهتمامها المتطرف بالتفاصيل الصغيرة، فـ «صوفي مول» الفتاة الصغيرة ذات الثمانية أعوام التي تدخل دخولًا مفاجًئا إلى قرية «إيمنم» مسقط رأس والدها بولاية كيرالا الهندية المعروفة قبل سنة 1950 بولاية ملبار، تقدم إلى القارئ صورة فسيفسائية عن تحولات المجتمع الهندي عبر أدق الأشياء وأصغرها، وهكذا تلتحم الطبيعة، من نباتات صغيرة، وحيوانات صغيرة مع حياة الناس ومنتاجاتهم وأحداث حياتهم. كما أن تاريخ الهند يتداخل بشكل عجائبي من أحداث تاريخية قديمة، إلى صور متلاحقة من التاريخ القريب، سيطرة الماركسيين، الاحتلال البريطاني للهند، وصول فاسكو دي جاما، انتشار المسيحية، انهيار الطبقات الاجتماعية، فتروي الأحداث من دون تعاقب كرونولوجي، إنما على شكل تداعيات له علاقة وثيقة بما عاشته الهند أواخر التسعينيات.


*


في العام 2009 كنت دعيت إلى مهرجان الأدب العالمي في برلين، وهو مهرجان كبير ضم نخبة مهمة من أدباء العالم، وكانت أرنداتي روي مدعوة أيضًا. رأيتها للمرة الأولى في خيمة المهرجان، وهي امرأة جميلة جدًا، كانت قد حلقت شعرها بصورة غريبة، وكانت ترتدي زيًا حديثًا ولكنه يستند إلى التراث التقليدي في الهند. وللمرة الأولى أشاهد هذه الكاريزما لكاتبة من العالم الثالث، فقد تحلق حولها أكثر الكتاب الأوربيين شهرة، حتى غونتر غراس الكاتب الألماني الشهير، حين رآها وضع كأسه على الطاولة وخف لتحيتها.


ذلك اليوم كانت لي رغبة شديدة بالحديث معها، ولكن لم يكن ممكنًا وسط هذا الحشد الذي يتحلق حولها، وكنت تعرفت صدفة على مديرة أعمالها، في مناسبة منفصلة، وطلبت مني حضور ندوتها، ولكني تخلفت لأن ندوتي كانت في الوقت ذاته، ولم أكن أعرف ذلك الوقت موضوعها، تصورته عن الهند أو عن الأدب الهندي المكتوب بالإنكليزية.


بعد يومين، طلب مني مدير المهرجان المشاركة في ندوة تحت عنوان «صراع الشرق والغرب، علاقات أدبية وسياسية»، وفي الواقع لم تكن هذه ندوتي، إنما من أجل تعويض الكاتبة السعودية المقيمة في بريطانيا رجاء عالم، والتي اعتذرت عن الحضور في اللحظة الأخيرة، ولم يكن ممكنًا أن تقام الندوة عن الشرق من دون حضور كاتب عربي، فوقع الاختيار علي، وبالفعل وافقت على المشاركة وهيأت موضوعي قبل ساعتين من صعود المنصة، المفاجأة كانت أنّ أرانداتي روي من بين المشاركين أيضًا.


كان النقاش ممتعًا بحضورها، والندوة ناجحةً جدًا، وحين عدت إلى الفندق ليلًا وجدت على طاولتي مظروًفا كبيرًا، إذ أرسلت لي أرانداتي روي، محاضرتها السابقة، والتي لم أحضرها، وفوجئت فعلًا إذ كانت محاضرتها السابقة عن العراق، فأرانداتي روي كانت ملتزمة بخط الدفاع ليس عن الأشياء الصغيرة  في الطبيعة فقط إنما عن كل الأشياء الصغيرة في التاريخ أيضًا، فهي ملتزمة بخط الدفاع عن الأمم الصغيرة، عن البشر الضعاف، عن النساء، عن المرضى، عن الأقليات الصغيرة، وقد دافعت دفاعًا مستميتًا ضد التعلق الهوبزووي للقوة في الغرب، فقد وقفت كناشطة مع مطالب التاميل، وأيدت انفصال كشمير، ودافعت عن العراق، وطالبت بتحرير السود، والعمال والمهاجرين. وكل الكائنات التي لا تقوى في الدفاع عن نفسها.


*


بعدها تعرفت عليها عن قرب، فاسمها الحقيقي سوزانا، أو هكذا يدعونها المقربون منها، من مواليد العام 1961، ولدت في شيلونج، في الهند، من أم مسيحية سورية، وهي ماري روي الناشطة في مجال حقوق المرأة، وأب بنغالي، من عائلة ثرية تمتهن زراعة الشاي. قضت طفولتها في ولاية كيرالا، حيث تدور أحداث روايتها «إله الأشياء الصغيرة». درست الهندسة المعمارية في كلية التخطيط والهندسة المعمارية في نيو دلهي، حيث التقت زوجها الأول، المهندس جيرار داكونها. ثم تطلقت منه وتزوجت المخرج السينمائي براديب كريشن، ولعبت دور الفتاة القروية في فيلمه صاحب ماسي. كتبت بعد ذلك العديد من الكتب السياسية وسيناريوهات الأفلام. وتعد اليوم من أبرز كتاب العالم الثالث في الغرب.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +