الجودلي

الجودلي

للذاكرةِ قدمان، ويدٌ واحدة. قدمان لتركضَ بسرعةٍ وتبتعدَ بكَ عن الواقع المُعاش كما لو أنّها لا تريدك، أو كأنّها تجرّب حظَّكَ العاثرَ بالمشي خلفها لا أمامها. ويدٌ واحدة ربما تكون يسراكَ دوماً، كي لا تتركَ لك فرصةَ الحوار أو التفاوض، تكتبها بخطٍّ مرتجفٍ بارد، ولا تصفّق لها، فقط تحزنكَ أو تربككَ في مكانها الفوضوي.


كانت الدراسةُ متاحةً، وللّباس شكلُه الوحيد، صدريته التي تناقلها الزمنُ من أخيه الأكبر مروراً بقطع اللحم، حتى آلت إليه كحصته من الحياة (حظُّ الصغير دوماً أن يرثَ ما يعتقد الكبار أنّه قد ضاق). يرمي كتبه على الأرض، ويستعدّ بلقمتين من «عروسة الزعتر» التي نسيها في محفظته. يصلُ لا متأخراً كعادته إلى معمل «كراش»، هناك حيث في انتظاره مئات الصناديق الفارغة ليملأها وينتظرَ الإكرامية بفارغ الصبر (ربما أتاحَ له هذا العمل، ليس كأقرانه، أن يكره طعم الكازوز). يدسّها في جيبه وتبدأ رحلة المشي وحيداً وهو يفكر في قصيدة سيهديها لفتاة كانت تشاركه حلم الطفولة، ويشاركها الحديث عن قدرته على الإنتاج، وعن طفولةٍ لم يعرفها بعد. يدخلُ غرفته/هم جميعاً، ويدسُّ جسدَه البارد كقطعة جليد تحت «الجودلي» التي يشاركه فيها كلّ إخوته، ثمّ يذوب تحت دفئها.


والجودلي لمن لا يعرفها، هي ما تبقّى من كنزات الصوف التي تركتها أختي التي تزوجتْ منذ زمنٍ، وما ضاق عنّي ولم أورثه لأحدٍ كوني الأصغر في بيتي، وبقايا القماش المهترئ ترفوه أمي جيداً وتحشو به ذلك الغطاءَ المسمّىالجودلي، فيبدو بألوانٍ تُشبهنا معاً، له رائحتنا الحية وما تبقّى من ذاكرتنا. معاً نضحك تحت ذلك الجودلي: «هذا كان لي، ذاك لي»، ونبدأ بالشجار على أشيائنا المفقودة المحوّرة، كلّنا معاً تحت وطأة الفقر والبركة التي نستنجد بها حتى لا نرتعدَ خوفاً من عدم الشكر والحمد.


الفقراءُ لا يحلمون «يملأ الصراخ قلبَه»، هم يبكون لأنّ دموعهم فائضةٌ عن الحاجة، صوتهم لا يحمل النشيج ولا يحتمل العويل، أحلامهم تعتري حاضرَهم لأنّهم وقودُ الحياة وثوراتُها وحجارتُها وأرصفتُها وطرقاتُها.الجودلي هي ما تبقّى من بيت أمي المُهدّم، كان يغطي ذاك الركام، ما تبقّى من إخوتي المتناثرين في جغرافيا المكان، وكأنّ المناخ ما عاد يتّسع لنا جميعاً. أحدنا كان يريد أن يصبح «شوفيراً»، والآخر «رئيس مخفر»، والثالث ما عدتُ أذكر، لذلك استعنْتُ ببنطاله المحبوك كقطعةٍ ميّتةٍ على الجودلي، لأشمّ فيها ما كان يريد أن يكون قبل أن يُعتقَل. قشعريرةُ النّشيد جعلتني أذكر أنه كان يريد أن يصبح «قمراً»، وأنا حين سألتني معلّمتي قلتُ لها بطفولة «أريدُ أن أصبح مُدخِّناً».


كقصاصات ورق عتيق، حين تعبث بها تُدهَشُ أنّك كتبتَ ذات عُمْرٍ عن الاشتراكية، وعن الحب، وعن فتاةٍ أحرقها التّوتر والغياب. كان الجودلي يستحضرنا معاً بدهشة، كموسيقيٍّ بأصابع ناضجةٍ لا تصلح للعزف، فقد تجاوزتْ أصابعُنا عمر الموسيقا، لتقفَ على الزّناد.


الألوانُ العتيقةُ «كزغللة العين» جعلتْ الجودلي أمامي كلوحة شكّلتْ وجهاً واحداً في البعد، ثمّ تبدأ الوجوه بالتشكّل والانزياح كلما اقتربنا إلى حرفيةِ التفصيل عن أمي التي كانت كلَّ هذا النسيج الفسيفسائي، لتشكِّل لوحةً واحدةً نختبئُ تحتها كي نشعر بالدفء، تصوغُ هذه الاختلافات والتناقضات، هي التي لا تعرف التدرّجَ اللوني ولا قوسَ قزحِ الأماني. استطاعتْ أمي أن تملأنا معاً في ذاكرةٍ واحدة، وفي ثورةٍ واحدة، ربّما نختلفُ على مسمّياتها ولكننا سنقفُ فيها معاً في خندقٍ واحد، ذلك لأنّ الخنادق لا يهمها إن كان سينبتُ العشب على رأسك أم على قدميك، فالوقت اليوم «وقت نزيف دم».


اقتربتُ من الجودلي كي أحمله معي في رحلة البحث الجديدة فملأَ المكان، هو لا يؤمنُ بالحواجز ومكان الولادة، فيتحول فينا إلى وطنٍ نستريح تحته.


وطنٌ على شكل ذاكرةٍ تعرفُ طريقها آمنةً دون خوف.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +