ابتسم، أنت أقوى من الموت

ابتسم، أنت أقوى من الموت

يلمع ضوءُ الفلاش في عينيك المشرعتين على الذهول.


فقدٌ إثر آخر تكتسب مهارةَ مواجهة الموت بوجعٍ أقلَّ، وبأكبر قدرٍ ممكنٍ من اللامبالاة. ماعادت الصدّمة تشكّل فارقًا كبيرًا لحظة سماع خبرٍ مؤسفٍ يستحق تفجّعكَ!


فقدٌ إثر آخر تصبح أقوى وأقسى. تدرّبت بكلّ انهياراتك السابقة على مواجهة ما سيأتي. تكتب في كلّ حينٍ سيناريو محتمل لفجيعةٍ قادمة. توقّعُ الموت يخففّ من أثره على نفسك. تتفنن في اختيار ردّة فعل مناسبة لما سيحدث، وتصرّ على أن تختار الأبعد عن التفجّع، كأن تبتسم في وجه زوجتك ثم تدخل لتنام.


تعلّمت أن تقرأ أسماء الشهداء بحثًا عن قريبٍ، كمن يقرأ إعلانًا في جريدة صفراء. تعوّدت على تجاهل «النعوات» وصور الموتى على مواقع الفيسبوك، تؤجّل واجب العزاء لوقتٍ لاحقٍ. تصدّق نفسك عندما تقول: «الموتُ ينتظر. لاشيء يدعو إلى العجلة. ستبكي لاحقًا. ليكن ألمك رصيدًا مضافًا لفاجعةٍ أكبر!».


الموت ينتظر، والحياة اقتناص مريرٌ للتجاهل، فلاتستسلم للموت تقع فريسة التفجّع الفائض عن الحدث!


أنت قويٌّ باللامبالاة، بالاعتياد. صرت تسخر من صديقك الذي يبكي بحرقةٍ هجرَ حبيبته، وآخر يجترّ موت جده فينحاز إلى الفجيعة؛ يرضع من ثديها. صرت تشمت بردود الفعل الطبيعية، وتكاد تصرخ في وجه المتفجعين هنا قائلاً: «أحزانكم مخجلة، فجائعكم تثير الغثيان، خساراتكم تثير الشفقة!»


تنسى عدد الذين رحلوا في السنوات الأخيرة، صديقك الذي مات تحت التعذيب، ابن عمك الذي أخطأته رصاصة الغريب وطعنته سكين القريب، جارك الذي قتل ببرميل الوطن الغادر، ابن خالك الذي استشهد بغارة روسيّة.


قبل أيّام مات خالك. قرأت خبر وفاته على الفيسبوك. تجاهلت الخبر. اكتفيت بابتسامةٍ في وجه زوجتك وكلمة «عادي». استدركت: «مات ميتة طبيعية». أضفتَ: «كان طيّبا ويحبني». تجاهلت دمعةً مكابرة وخرجت من البيت. هذا جيّدٌ، لن يحاسبك الموتى على تجاهلك لهم!



أنتَ بعيدٌ ومنسيٌّ في اغترابك. أقوى من الموت، أقوى بكثير من الأخبار العاجلة والقاتلة، أقوى من الدمار الذي تخلفه القذيفةُ في مقبرةٍ بحجم البلاد. لكنّكَ أضعفُ من الحياة التي تتسرّب خلال شقوق الذاكرة، من وجوه الذين مازالوا هناك أحياءَ على هامش المقبرة،عندما تصفعك الحياة بفكرة أنّك على قيد سجلاتها، لم تتجاوز رغبتك في أن تبكي لأسبابٍ تافهة، وتدخل في العزلة أمام موتٍ يجيء عاديًا ومتوقّعًا.


أنت الآن أقوى وأكثر قدرة على امتصاص ارتدادات الفجيعة. سدودك المنيعة أقوى من سيل الذاكرة. لامبالاتك أكثر تحصينا من أن تتلفها قذيفة وجع طائشة... لكنّك أضعف من الحياة، الحياة التي تهزمك بلامبالاتها، الحياة التي تستثنيك من العادي والمهمّش؛ لتضعك أمام الكاميرا وهي تقول:


«ابتسم...أنت الآن أقوى من الموت!«

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +