جنّة الشباب منازلهم

جنّة الشباب منازلهم

حواجز التفييش، الدوريات المنتشرة، شبح الاحتياط، قوائم الأسماء التي تتجدد يومياً، باصات النقل الخضراء، السحب الفوري إلى جبهات القتال المشتعلة. جملٌ صارت تثير حالة من القلق والهستيريا بين الشباب في دمشق ومعظم المدن السورية، أحاديثٌ مرعبة تترد كل يومٍ عن حوادث جرت أو سيناريوهات قد تجري، وخوفٌ يتفاقم مع تصاعد الحملة الشرسة التي تشبه النفير العام ويشبهها البعض بأيام السفر برلك. حملةٌ تلاحق ما تبقى من أملٍ لدى شباب يجاهدون للتشبّث به، وتسوقهم بالترهيب والإكراه إلى معارك، يرى فيها المؤيدون منهم، أنها لا تعنيهم ولا جدوى من خوضها، وستقودهم إلى الهلاك والموت المجاني.


حواجزٌ تتكاثر في كل ركن، تنصب أفخاخاً للعابرين لتقرر مصيرهم، اقتحامٌ للمقاهي والحدائق وأماكن العمل ومداهماتٌ للأحياء الأكثر اكتظاظاً بالسكان، وشن حملات اعتقال عشوائية. فمن حالفه الحظ سيُطلق سراحه، ومن لم يحالفه سينقل عبر سجنه المؤقت إلى معسكرات الجحيم. حملةُ فتحت سوقاً جديداً لتجار الحروب ليزاولوا مهنة الابتزاز، فيتقاضون مبالغ طائلة مقابل إطلاق سراح بعض المحتجزين.


حالات سَوقٍ تسرق الحياة بشكل مفاجئ، أزواجٌ سرقتهم الحواجز من زوجاتهم وأطفالهم الذين سمعت الشوارع صراخهم وبكاءهم. مرضى كانوا يحملون تقارير طبية تعفيهم من الخدمة، فلم يشفع لهم وضعهم الصحي ولم يُمنحوا وقتاً ليجلبوا أدويتهم. شبان كثر لم يُسمح لهم بالاتصال بذويهم الذين لم يعرفوا شيئاَ عن مصير أبنائهم، ونازحين من المناطق الساخنة، زُجّ بهم في المعارك على الفور، بدون التأكد من أوضاعهم، بحجة أن لهم اخوةٌ وأقرباء يقاتلون مع «الارهابيين».


في شوارع دمشق أو داخل وسائط النقل المتعددة، ستجد حضوراً نسائياً كثيفاً يطغى على المكان، بعد أن غرق الشبان في مستنقع حصارٍ مؤلم وصاروا يقيسون خطواتهم بالميزان وأصبحت جنتهم منازلهم. كثيرون منهم تركوا مصادر رزقهم، أو حصلوا على إجازةٍ مفتوحة خوفاً من التنقل في حقل الألغام هذا. آخرون توقفوا عن الذهاب إلى الجامعة أو حرموا من أبسط حقوق الحياة كالذهاب إلى المقاهي وحضور الأنشطة والمناسبات وزيارة الأهل والأصدقاء. البعض، ممن كان يفكر بالسفر هرباً من الحرب، تريث قليلاً كي لا يُحوِّلوا وجهة سفره إلى الحرب ذاتها، كما حدث مع بعض المسافرين إلى لبنان، حيث تم سوقهم للاحتياط مع أنهم لم يتلقّوا إخطاراً بوجوبِ التحاقهم. من جهة أخرى، اضطر عددٌ من موظفي الدولة على الالتحاق بالخدمة الاحتياطية كي لا يلتحقوا بزملائهم الذين فصلوا من وظائفهم أو اعتقلوا بسب رفضهم للالتحاق، فيما تغيّب جزءٌ منهم عن عمله لأجلٍ غير مسمى مجازفاً بمصيره وقوت عائلته.


في فحص قبول أجرته بعض الوزارت لتعيين عددٍ من الموظفين لديها، كان واضحاً في قاعات الامتحان تغيّب الشبان عن موعد المقابلة، حيث كان عدد النساء في القاعات حاولي تسعين في المئة مقابل عشرة في المئة من الشباب، على الرغم من أن عدد المتقدمين منهم كان يعادل عدد المتقدمات تقريباً، لكنهم ضحوا بهذه الفرصة الذهبية خوفاً من مصيرٍ لا تحمد عواقبه.


هذه الحملة أضرّت بسائقي السرافيس وسيارات الأجرة، فبعضهم توقف عن العمل بعد أن شُلّت حركة مركباتهم، إذ قد تتوقف لساعات طويلة حتى يتم الافراج عنها، وأحياناً قد لا يفرج عنها أبدًا. أحد السائقين اقتيد للخدمة الاحتياطية مع عدد من ركّابه وبقي «سرفيسه» أسيراً لدى عناصر الحاجز العسكري، بينما كان سائقٌ آخر يسعف أحد المرضى فسِيق إلى المعركة تاركاً المريض في السيارة يخوض معركته وحيداً.


لم تكن حياة الشباب هنا هنيئة ورغيدة قبل هذه المعمعة، فقد كانوا يعانون شتى أنواع القهر، بدءًا من الوضع النفسي المتدهور، والواقع الاقتصادي المتردي، وأمراض الحياة اليومية، وانعدام الأفق، وليس انتهاءً بالملاحقات الأمنية للكثيرين منهم، ولكنّ ما يحدث اليوم يفوق حجم كل المآسي والتراجيديات، فقد أصبحت أغلب الأماكن سجناً وحاجزاً منيعاً في وجه أي طموحٍ أو حلم أو محاولة، تماماً كما يقول المثل الشعبي: «فوق الموتة عصّة قبر».

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +