الغراب الملتحي

الغراب الملتحي

لا يصدقني أحد أبداً عندما أقول بأن الغربان في إيران تتمتع بصدر أبيض، صدر أبيض ناصع كغيم، صدر كلحية بيضاء مع رأس ومنقار أسود عريض، لا ألمح طبعاً إلى الملالي، إنها الغربان فقط صيادة السمك. لا يضير سوريا بيئياً انتشار هذه الغربان بيضاء الصدر في سمائها وأشجارها وأنفاسها، فقد تكلم التاريخ طويلاً عن هجرات بعيدة لأنواع كاملة من منطقة إلى أخرى دون أن يؤثر هذا على المحيط الحيوي.


صرخ أحدهم بصوت عال أثناء شجار عنيف في الشارع في مدينة قزوين الباردة مهدداً خصمه: «احترم نفسك وإلا استأجرت ثلاثة أفغانيين لقتلك، لن يكلفني ذلك أكثر من 100 دولار»، قفزت إلى ذهني صورة زميلنا الدكتور الأفغاني اللطيف الوسيم الذي يعشق أغاني «Pink Floyd» والذي يُعين شَعره على الوقوف لفترات طويلة باستعمال كريم سحري، تخيلته يعمل بعد حصص الجامعة مع عصابة شرسة تشبه الشبيحة السوريين الذين اعتدنا سابقاً على ظهورهم من العدم، كمحصلي ديون لأصحاب الأموال، مع نسبة خفيفة لا تتجاوز أربعين في المئة. تخيلته يطوي المعطف الطبي الأبيض بهدوء، ويضع السماعة في درج مكتبه، ويسحب ملابسه الأفغانية من الخزانة بهدوء ليتحول بعد دقيقة إلى طالبانيٍّ شرسٍ جاهز لاقتلاع القلوب.


حاصرت تلك الصورة ذهني بعد قرأت عن الأفغان الذين تجندهم إيران من السجون ومن اللاجئين لتنضو عنهم المعاطف الطبية ومعاطف الفقر والظلم، ليرتدوا البدلة العسكرية الإيرانية ويلتحقوا بقتال الكفار الذي يقتلون آل البيت في سوريا!


هكذا كان الخطاب الذي رُوِّجَ له في مدينتنا الباردة قزوين، لنذهب جميعاً للدفاع عن آل البيت في سوريا، ولا مانع إقامة إيرانية في حال لم «يستشهد» الجندي ومبلغ 500 دولار أمريكي شهرياً.


باح لي إيراني (علماني تماماً) هارب من الخدمة العسكرية في بلاده، في ليلة ليلاء في كوالالمبور في ماليزيا، بعد أن سحب النفس الأخير من سيجارته الملفوفة بعناية مع بعض قطع «الكيف» الندية باكياً: «أغلب شهدائنا في الحرب مع العراق أطفال، يا لهؤلاء الأبطال الذين ذهبوا إلى حتفهم مبتسمين، إنها الظاهرة الأنبل في القرن العشرين، «شهداء انتصارنا» في الفاو، يحرسون روح فارس الحقيقية، لا تنزعج يا صديقي أعلم أن العراقيين أبناء عمومتك، ولكنهم كانوا أعداءنا في تلك الحرب، وانتصر عليهم أطفالنا، لقد حاربنا بالأطفال لننقذ مستقبل أطفال آخرين، كان العراقيون متوحشين، ولا بد من توحش مضاد، وأنت سيد العارفين».


أما في السيدة زينب في دمشق، وبعد عاشوراء، صادفت مع صديقي، الذي كان مسلماً طبيعياً تماماً أيضاً، عندما كان يسكن في حمص، هندياً يضع الحلقات الحديدية التي تتمتع بنتوءات واخزة في ساقيه كالخلاخيل، ويقبل قطعة الرخام النائمة على عتبة مقام السيدة، لم أبد الكثير من الامتعاض لأنني كنت في تلك الفترة أؤمن، كليبرالي جديد فارغ، بالأنثروبولوجيا الحديثة التي ترى في كل أشكال الاجتماع البشري خصوصيات جميلة تميز البشر عن بعضهم البعض وتمنحهم خصوصياتهم.


كان يطير فوق مقام السيدة زينب في تلك الفترة الكثير من الغربان البيضاء التي لم أُلقِ لها بالاً، لم يخطر ببال أحد، ولا حتى أكثر المتشائمين، أننا سنغدو ذات يوم سمكاً سهلاً للغربان السوداء بيضاء الصدر صيادة السمك، كنا نرى في محيطنا الحيوي جزيرة مرجانية خلابة متنوعة تضم كل الأسماك والغربان والنسور والصقور والقروش والعصافير، ونقار الخشب السوري الذي كنا نفخر ذات يوم بأننا من صدرناه إلى المنطقة الممتدة من جنوب شرق أوروبا إلى إيران، ليحمل اسم سوريا عالياً ويدق الأخشاب بصبر.


لم يخطر ببالنا يوماً أن تبادلنا إيران بالغربان بيضاء الصدر صيادة السمك.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +