القتل الرحيم

القتل الرحيم

جاء خبر إغلاق ملحق النهار الثقافي نهاية العام الجاري، ليتوّج مسيرة من التعثّر المتلاحق للإعلام الثقافي المكتوب. الخبر محزن بدون شك، لاسيما بالنسبة للكتّاب الذين ساهموا فيه، ولكن هل هو خسارة ثقافية بحق؟ هل لايزال ملحق النهار هو ذاته الذي في ذواكرنا؟ الملحق الذي كتب فيه سمير قصير لفاروق مردم بيك «شعبك عظيم يا أخي»، والذي تناولنا عدده الدمشقي (كما وصف) حين حمل ردًا لمثقفين سوريين على قمع ربيع دمشق وكأنه منشور سري! وهل ينفصل الملحق عن الخط العام للجريدة؟ هذا الخط المشوب بعنصرية فاضحة تجاه النزوح السوري الكثيف للبنان!. ماهي قضية الملحق اليوم؟


 لربما رثاء مطبوعة حين توقفها قد يحجب حقيقة أن رثاءها كان مستحقاً لحظة خسارتها لدورها وتأثيرها. ليس الخطاب العنصري بحق السوريين وقبلهم الفلسطينيين طارئاً بالنسبة لجريدة النهار، فالجريدة التي كانت دوماً الأقرب لخط الكيانية اللبنانية وللدور والريادة المفترضين للمسيحيين ضمن هذا الكيان، سبق وتناولت اللاجئين الفلسطينيين والعمال السوريين في لبنان بعدائية فاضحة، ولكن مع ربيع دمشق القصير، وإفساح المجال لسياسيين ومثقفين سوريين للكتابة في صفحات الملحق، نُفخت روح جديدة في العلاقة بين الجريدة والقارىء السوري.


 لم يك الأمر مفصولاً عن تبني الجريدة للنضال من أجل السيادة اللبنانية ضد هيمنة النظام السوري على مجمل الحياة السياسية للبنان، وكان بإمكان كلام سمير قصير حول ترابط «إستقلال لبنان وديموقراطية سوريا وتحرر فلسطين» أن يمسح شعارات الممانعة: ككلام حافظ الأسد عن «شعب واحد في بلدين» أو كليشيه الخطاب الرسمي اللبناني عن «تلازم المسارين السوري واللبناني» أو «وحدة المسار والمصير».


 عاش الملحق فترته الذهبية إقليمياً حينها، ليخبو أثره لاحقاً بعد إغتيال سمير قصير فجبران تويني، وصولاً الى إغلاق الملحق اليوم كنتيجة طبيعية لتدهور حال الجريدة. ولايحتاج إدراك مدى هذا التدهور إلا فتح موقعها الإلكتروني ومشاهدة كم العناوين المتعلقة بالإثارة الجنسية كوسيلة للجذب. أصحاب العلاقة قرروا تخفيف الحمولة فتخلصوا ممن يشوش على الصورة الجديدة.


 قبل ملحق النهار أُغلق ملحق نوافذ في جريدة المستقبل، وخلافاً له كان لملحق نوافذ قضية ودور مستمرين، ومع ذلك استسهل أصحاب العلاقة التخلص منه توفيراً لكلفة مادية شهرية بسيطة، فالأزمة المالية الخاصة بعائلة الحريري ليست سراً، ورواتب موظفي المؤسسات الحريرية لم تدفع منذ شهور نظراً لجفاف المال السياسي السعودي عن الجيب الحريري.


و في وقت سابق أيضاً تعثرت استمرارية فصلية «كلمن». الفصلية لم تكن ممولة بل تعتمد على مساهمات كتّابها المجانية، ورغم إستقطابها لمجموعة من أهم الكتّاب العرب، ورصانة مواضيعها وحيويتها، إلا أن تعثرها طرح إشكالية البقاء مع الإستغناء عن التمويل، وأزمة القراءة للإعلام المكتوب مدفوع الثمن في عصر الهواتف الذكية والحاسبات اللوحية التي تتيح القراءة المجانية لتشكيلة واسعة من المواضيع.


 لا يشكل توقف الملحقين والفصلية سابقة في تاريخ النشر العربي بالطبع، فقد سبق لعدة دوريات ثقافية ناجحة ومؤثرة أن توقفت لأسباب شتى، منها مجلات «شعر» و«مواقف»، مجلة «الأداب» أيضاً توقفت نتيجة العامل المادي وإن عمل ناشرها على عودتها عبر الفضاء الألكتروني، وقبل عقدين أوقف رياض نجيب الريس مجلة «الناقد» متعللاً بأن للمطبوعات عمر محدد وليست مهيأة للخلود. هو إذاً القتل الرحيم! سواء لتخفيف الحمولة أو توقف السيولة أو العجز عن التنافسية مع الإنترنت المفتوح والمجاني، أو ببساطة طوعاً وإيماناً بنهاية المبرر والدور وحفاظاً على السمعة. يبقى أن لائحة الخاسرين كبيرة، من كتّاب فقدوا منابرهم الأثيرة، إلى قرّاء مخلصين، إلى الخاسر الأكبر ربما؛ وهو بيروت كعاصمة للصحافة والنشر في العالم العربي، فكما خسرت مكانتها المالية والخدماتية لصالح مدن خليجية كأبوظبي ودبي، هاهي تخسر اليوم مكانتها الإعلامية أيضاً، وبشكل مترابط مع أزماتها الأخرى كالفراغ الرئاسي وملف النفايات.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +