لو صدّق السوريون ممدوح... لو أنهم يصدقونني الآن!

لو صدّق السوريون ممدوح... لو أنهم يصدقونني الآن!

وأعلمُ أنّك أصم... لذا لن تسمعَ يوماً دبيب النمل في أصابعنا.


وأعلمُ أنك بلا قلب... لذا لن تصاب بالذبحة مثلنا، حينما يدقُّ أحدهم رقبة ما نكتب.


وأعلمُ أن لا ذاكرة لك... ولا أثر لك في الذاكرة.


أيها الموت. الذي يريد للسوريين اليوم أن يحيل هويّتهم إلى فُتات هويّات، تريدُ لي أنا، الميّت، أن أكون على دين، وتريدُ لممدوح عدوان، الحيّ، أن يكون على دين؟!


حسنٌ... لك ذلك.


ولكن عليك أولاً، أن تطردني من فصل ممدوح عدوان الدراسي في الكتابة الدرامية، لحوارات خلت. أن تمنعني من مشاكسته، حول كليب وحِماه، الزير وسؤاله الوجودي، اليمامة التي تريد أباها حيّاً، والجليلة، الحائرة إلى أي فريق من المتقاتلين تقف، كما آلاف الأمهات.


أتدري أيها الموت، أن لهجة ممدوح (المِصيافيّة)، حرف القاف في فمه، القاف التي تحوّلت لعقود في وطني إلى معادل للقبضة الأمنية، وقسوة النظام الشمولي، هذه القاف،  فقط حين تخرج من شفتي ممدوح، يزداد النهر السوري عذوبةً، ويبيع صاحب الكشك على طريق (الربوة) عَرقاً أكثر؟!


ومن ثم أيها الموت، هل تحدثت إلى ممدوح يوماً؟


أبوه الذي كان يُلقّب بـ «الصبر» سمّاه مدحت، ليكون مدحت الصبر، ولكن عمّه، العروبيّ، استهجن الاسم لتركيبه التركي، فسمّاه ممدوح، ومن اسمه هذا أطل على العروبة، والبادية والبدو شرقاً، حيث وُلدتُ أنا بعد عقودٍ من ولادته، لتحملنا الأيام في رحلتها تالياً، ومن ثم ليكون أستاذاً لي، وأكون تلميذاً لديه.


أعرف ممدوح، أعرفه من ضحكته، من شعره الفضّي، من تحلّقنا حوله، من تمارينه في كتابة الدراما، من كأس الشاي المشتركة في بوفيه المعهد المسرحي، من نصحه الدائم لنا بالكتابة باللغة التي يفهمها العرب كافة، نحن الذين أصبحنا كتاباً في غيابه، وفي الحلوق عبرة أننا لم نصبح زملاء له، وبقي هو المعلّم الغائب.


وأعرف ممدوح، من الألفي ليرة سوري التي طلبتها منه، لأطبع مشروع تخرجي، مسرحيتي الأولى، الذي رفضت أن يكون هو المشرف عليه، أذكر ضحكته وقتها: أنتَ تستدين مني نقوداً لتطبع مشروعاً، كان من المفترض أن أكون أنا القائم عليه!


وأتذكر ممدوح، أتذكر ليل عبيده، وخوفه من أن يكون أسيادنا في الجاهلية هم أسيادنا في الإسلام.


أتذكر قصيدته الأب، التي ظنّوا أنه يقصد بها رأس النظام السوري، فمنعوه من السفر بسببها، فيما كان يكتب هو مرثية في أبيه (الصبر).


أتذكر مسرحيته السفر برلك، وأتذكر أنه كان على أتم العناد لأن يلوي رقبة من يحاول لَيّ رقبة نصّه، وأتذكر سيارته الفولكس فاغن، بلون الزيز، الزيز الذي كثيراً ما كنت أتخيل أنه يمشي على ظهره ويدغدغه.


أتذكر حيونة إنسانه... الذي أصبحنا عليه.


وأتذكر أيضاً، أنني دخلت بيته لأول مرّة، بعد وفاته بساعتين، لأجد أنه كان قد رحل تاركاً للمعزّين قهقهته.


أيها الموت...


لو صدّق السوريون ممدوح، لو أنهم يصدقونني الآن، لو أنهم جلسوا مرّة في مسارحنا، وتحاورنا، لربما كانوا وفروا على أنفسهم الكثير من الدماء، والعديد من الأسئلة.


أيها الموت...


ها أنت ترى، أنا الآن في مواجهتك، ولي قسوتك... لكن لي ذاكرة مسرحي... تتذكّر ممدوح عدوان، وتنساك.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +