عن صورتين.. وما بينهما

عن صورتين.. وما بينهما

صورتان متقابلتان


الأولى: يخرجُ من المعتقل بموجبِ اتفاق تبادلٍ أُجبِرَت عليه إسرائيل بعد حربٍ طاحنة، وأولُ ظهورٍ له بعد ثلاثين عاماً من الاعتقال كانَ على مسرحٍ في بيروت، يحطمُ قضباناً كترميزٍ لكسر إرادة سجّانه، ويعتلي الخشبة ليستقبله قائد حركة المقاومة المسلحة التي أجبرت أعداء بلاده على إطلاق سراحه.


الثانية: يموت في جرمانا بدمشق مع عدد من قادة ميليشيا الدفاع الوطني التي ارتكَبَت عشرات جرائم الإبادة، بعد أن شاركَ في حربٍ يخوضها نظام ديكتاتوري ضد الثائرين عليه، وبعد أن أعلن أنه مقاتلٌ في صفوف ميليشيا طائفية تُدافعُ عن النفوذ الإيراني داخل سوريا.


بين الصورتين


يصرُّ كثيرون على أن شيئاً لم يتغير، وأنه ليس ثمة مبررٌ للتحول من الانطباع المرافق للصورة الأولى، إلى الانطباع المرافق للصورة الثانية. وكأن عملية نهاريا التي شارك بتنفيذها سمير القنطار لا تجبّ ما قبلها، بل تجبُّ ما بعدها أيضاً. وكأن قتال الإسرائيليين يصلح أن يكون شفاعةً لأي شخصٍ كي يفعل ما يريد. ليس هذا فحسب، بل إن ثمة من يقول أشياء مخيفةً مفادها «العار على النظام السوري والعار على المعارضة السورية، والمجد للشهيد سمير القنطار»، وكأن سمير القنطار مقاتلٌ طيبٌ مخدوعٌ ضيّعه صراع النظام مع معارضته.


بين الصورتين، مئات آلاف الضحايا السوريين، وقواتٌ إيرانية يقاتل إلى جانبها سمير القنطار في سوريا، وانهيارٌ كاملٌ لفكرة مقاومة إسرائيل عند محور الممانعة، لصالح فكرة الدفاع عن مصالح إيران. وبين الصورتين آلاف الضحايا الذين ماتوا تحت التعذيب في سجون النظام الذي مات القنطار دفاعاً عنه، وبين الصورتين بلادٌ دمرتها أشياءُ كثيرة من بينها، وفي قلبها، نهجُ القنطار وخطابه ونمط تفكيره وتفكير أولئك الذين يشبهونه.


لكن الأهم بالنسبة لي أن بين الصورتين أنا، أنا الذي نضجتُ وكبرتُ وصرتُ أعرفُ أن قتال إسرائيل ليس فضيلةً في حد ذاته، بقدر ما إن الفضيلة ينبغي البحث عنها في الإجابة على سؤال: لماذا نقاتلُ إسرائيل؟ أيضاً بتُّ أعرف أن مقاومة الطغيان، أيّ طغيان، ليست فضيلةً في حد ذاتها على الرغم من أحقيتها وضرورتها، لكن الفضيلة ينبغي البحث عنها في الإجابة على سؤال: لماذا نقاومُ الطغيان؟


لماذا؟


كان ذلك صعباً دون شك، إذ ليس سهلاً أن يُصبحَ من كنتَ ترى فيهم أبطالاً مجرّدَ مجموعةٍ من القتلة من وجهة نظرك، ليس سهلاً أن تنقلبَ الأشياء على هذا النحو الفجائعي. من المستحيل تجنبُ المقارنة على الرغم مما قد يبدو فيها من شططٍ وخِفَة: هل فعل الإسرائيليون بهذه البلاد وأهلها ما فعله ويفعله نظام الأسد وحلفاؤه؟ الجواب قطعاً هو: لا.


ما العمل إذن؟ ما العمل يا سمير القنطار؟


على أن السؤال الأساس يبقى: لماذا يبدو عسيراً على بعض الأشخاص أن يقبلوا أن الأشياء تتغير؟ وأن الرؤى تتغير؟ وأن الأشخاص يتغيرون أيضاً؟


لا يتعلق الأمر بالثورة والموقف منها ومن تياراتها السياسية وفصائلها المسلحة، وليس ضرورياً أن يكون المرء منحازاً للجيش السوري الحر ومُدافعاً عنه، حتى يكون لديه موقفٌ من سمير القنطار ونهجه وحزبه ومواقفه. الأمر يتعلق بأبسط قواعد العدالة والمنطق، والكلامُ ليس موجهاً هنا لأنصار إيران ومحورها بطبيعة الحال، بل هو موجهٌ لمن يقولون إنهم ليسوا من أنصار النظام السوري، لكن القنطار بطلٌ من أبطالهم الذين لا يجوز المساسُ بهم في الوقت نفسه.


يبدو صعباً فعلاً تغيير الموقف من قضيةٍ كهذه، وخاصةً بالنسبة لمن عاشَ عمره متخندقاً خلف شعاراتٍ مؤداها أن الفعل الأكثر قداسةً هو قتال الإسرائيليين، وأن كل معركةٍ ينبغي أن تكون بوصلتها فلسطين المحتلة. سيكون الاعتراف بأن سمير القنطار قاتلٌ فقد حياته وهو يدافعُ عن مشروعٍ طائفيٍ استبداديٍ قاسياً بالنسبة لهؤلاء دون شك، لأنه سيعني انهيار بناءٍ ضخمٍ من الأفكار والحكايات والأساطير التي تعشّشُ في رؤوسهم، سيعني انهيار ماضيهم والعودة إلى نقطة الصفر.


العودة إلى نقطة الصفر هي المشكلة، لأن المسألة لو كانت متعلقةً بالعدالة لما كان ثمة نقطة صفرٍ نعود إليها. العدالة يا أصدقاء، حس العدالة يكفي كي نقول إن سمير القنطار فقد حياته وهي يقاتل دفاعاً قضيةٍ غير عادلة.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +