خشبات محرّمة

خشبات محرّمة

(الفكر الّذي يتحرّك وفق مبدأي «المبدأ والمعاد» غير خاضع للتطوّر لأنّه لا يسير عموديّاً بل أفقيّاً فقط.)


وبهذا نربط ما قاله «هنري كوريان» بمفهومِ القدريّةِ التي يؤمن بها العرب؛ بأنّ ما يحدث في المسارِ العموديِّ للأحداثِ مكتوبٌ و مقدرٌ، أما المسارُ الأفقيُّ فهو عبارةٌ عن حوادث ثانويّة لا أهميةَ لها، لا تخلقُ دراما، فالإنسانَ يتحرَك فيها متجنباً الصراعات، ومسلّماً لما قد كُتِبَ لهُ باعتبارهِ خيراً، طالما أنّه مكتوبٌ من قبلِ الخالقِ الّذي منحهُ حريّةً في تنفيذِ القدرِ المكتوبِ عليه فقط، فثنائيّة الإله والإنسان غير مُتصورة. وهذا الرضا والقبول الأعمى لما هو إلهيّ، والاندماج بين الشيء الصغيرِ الّذي هو «الإنسان»، بالكلّ الّذي هو «الخالق»، استحال تصور صراع، وشغل انتباهَ الإنسان عن البحثِ في طريقةٍ ليتأقلمَ مع هذه التصوراتِ والممارساتِ الاجتماعيّةِ والعقليّةِ والدينيّةِ، ويندمج بها، حيثُ لا مجالَ للاعتراضِ الفرديِّ بسببِ تخوفاتٍ عديدة قد تودي بحياة الفرد.


المجتمعُ العربيِ مجتمعٌ يرفضُ التجربةَ الإنسانيّةَ لعديدٍ من التخوفاتِ السياسيّةِ، الدينيةِّ والأخلاقيّةِ؛ كما أنّه يجردِ تجربة الفردِ الإنسانيّةِ من كافةِ أشكالِ الصّراعِ بسببِ عدمِ تلاؤمِ طبيعةِ هذه التجربةِ مع تصورِه عن التاريخِ باعتبارهِ أسطوريّاً (أيّ أنّه ثابتٌ ضمنَ ما هو متغيّرٌ عابرٌ)، لا يتطوّر ولا يخلق دراما، وهذه الأسباب كشفَت عن جهلِ العرب بالفنِ عموماً والمسرحِ خصوصاً، فالحياةُ حسْبَ تصورِهم لا تقدّمُ دراما، والإنسان لا يعيشُ صراعاً مع أيّ قِوى سواء كانت مع خالقِه أو القدرِ، أو صراعاً مع نفسِه والمجتمعِ الّذي ينتمي له، كما أنّ حريّةَ هذا الإنسانِ ناقصة تَمنعُه من تجاوزِالسلوكِ الاعتياديِّ، في حينِ كانت طبيعة الفردِ اليونانيّ والحريّةَ الّتي يتمتع بها للتعبيرِ عن المواقفِ الصّراعيّةِ، قد تجاوزت اللا اعتياديّ، ووضعَ نفسَه مقابلاً وندّاً للآلهة، بسببِ التعارضِ بين حريّته وبين ما هو مكتوبٌ، وأخذَ موقفَ الرافضِ، فلو لم يتحقق الانفصال بين الدينِ والسّياسةِ لبقِي الفرد اليونانيّ يتمتعَ بحريّتِه في أدنى درجاتِها؛ فالإنسانُ العربي لا يشكُ بتخطيطِ اللهِ لهُ، على عكسِ الفردِ اليونانيِّ الّذي يأخذُ موقفَ المشكِكِ والرافضِ لسلبِ حريّتِه واضعاً نفسَه ندّاً للقدر ولكلّ ما هو مكتوبٌ لذلك عرفَ اليونانُ المسرحَ قبلَ العربِ بمئاتِ السّنينِ.


وهناكَ العديد منَ الأمثلةٍ لشخصياتٍ يونانيّةٍ في المسرحِ، كأنتجونا التي هي أبرزُ مثالٍ على مواجهةِ الفردِ للكيانِ الاجتماعيِّ المفروضِ ونظامِ الحكمِ المستبد، ولا ننسى أوديب الملك الّذي وضعَ نفسَه ندّاً للآلهةِ لرفضهِ ما هو مقدّرٌ لهُ، بسببِ إيمانِه بفرديّتِه. والأساطيرُ اليونانيّةُ مليئةٌ بمثلِ حركاتِ التمردِ تلك.


هذه الدّراما غذتْ الأدبَ والفنونَ بما فيهم المسرح، وكانت التناقضاتُ والصّراعاتُ الّتي يعاني منها الفردَ مصدراً شكّلَ مادّةً للمسرحٍ، والحديث هنا عن مسرحٍ حقيقيٍّ لهُ دورٌ وظيفيٍّ كنشرِ الوعي بين الناسِ وإعلاء الحسِّ الفرديِّ... إلخ.


انطلاقاً من هذا التعريفِ لا يمكنْ اعتبار الطقوسِ والاحتفالاتِ عند العربِ مسرحاً كما يعتقد البعض، وجهل العربِ بالمسرحِ -على الرغمِ منْ معرفتهم  بالثقافةِ اليونانيّةِ والاطّلاعِ عليها- يعودُ إلى طبيعةِ الفردِ العربيِّ الّذي لا يمكنْ أن يتصورَ نفسَه ندّاً لأحد، هذا من جهة، ويعودُ أيضاً لمفهومِ رؤيته للإنسانِ في الحياة من جهةٍ أُخرى (الإنسان المُسَلّم لكلِّ ما هو مكتوبٌ).

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +