الأماكن لم تعد تشتاق لك!

الأماكن لم تعد تشتاق لك!

ما إن وضعت قدمي داخل تكسي الأجرة، وقبل أن يسألني عن مكان ذهابي سمعته يردد «فخ ....فخ....فخ»، غموض وجهه الشاحب قضم لساني وراحت عيناي تتفقد السيارة من الداخل، صور عائلية مبعثرة على «التابلو» وبجانب ساعد الغيار مشروب «xxl».


- أنا اليوم «مو شغال ع التكسي... رايح بيعها... بس ما بعرف ليش وقّفتلّك».


زاد توجسي، وبينما بدأت أبحث عن حجة للنزول عاود صوته «فخ... فخ...»


حضرتك صياد عصافير؟ حالما سمع سؤالي غمرته ضحكة ضاجة لم يستطع إخمادها، أرغمته على التوقف.


هممت بالنزول بسرعة فمسك يدي والتقت عيناي بعينيه الذابلتين، قال: لا تخف... صرنا نحكي مع حالنا، أنا مدرس لغة عربية، من المليحة، وين رايح لوصلك يا ابني، ما بيصير تنزل هون منطقة مهجورة!.


دفء صوته أعاد الطمأنينة إلي، فجلست وأغلقت باب السيارة وقلت: إلى «نجها» لو سمحت.


 وبينما أمضغ الوقت في انتظار الوصول، سحب صمام الأمان من فمه وصار يتكلم الفصحى: اشتغلت أثناء دراستي الجامعية في «نجها» ناطور مقبرة الشهداء ثلاث سنوات، كان مكاناً موحشاً، هناك ترقد الجثث التي كنت أسامرها وأطهو لها الشاي  وندخن معاً، واكتشفت أن لكلّ جثة اسماً وحكاية.


تلعثمتُ، وبدأ الصمت يقضم نصف كلامي «أن... أنا... مو... مو... رايح على مقبرة الشهداء أنا رايح».


داهمته ضحكة طردت ارتباكي، وبدا لي حاجز قريب فسألته على الفور: «يعني مدرس عربي ومن المليحة و«xxl» وناطور مقبرة، يعني مو راكبة... وشو هي فخ... فخ... فخ... شايفلك أنا اللي وقعت بالفخ! نزلني عند الحاجز إذا سمحت».


قبل الحاجز بقليل أخفى الـ «xxl» وقال لي «جهّز هويتك، مالك مصدقني... معك حق».


أعطينا بطاقتينا الشخصيتين  للحاجز. سأله العنصر «بعدك ما بعت السيارة ؟ وين هي الأغنية تبع {الأماكن مشتاقة لك} اللي كنت صارعنا فيها».


لم يجب بحرف على العنصر، وتابعنا السير ولا أذكر لماذا عدلت عن النزول.


- آخر مرة ذهبت إلى المليحة لجلب بعض الأوراق الشخصية، استطعت الدخول بمشقة بالغة برفقة عسكري مقابل بعض المال، شاهدت كيف صارت الأزقة التي فقدت معالمها، والفئران كيف تسرح في المكان، غادرت مسرعاً، بعدها لم أعد أحب أغنية المرحومة أُم الأولاد «الأماكن مشتاقة لك» التي كانت تستقبلني بها عند عودتي للبيت.


بعينين دامعتين تابع حديثه.


- لست راضياً عما حدث، ولا أعرف كيف ولماذا وصلنا إلى هنا، يذهب كل الشرّاح إلى تفسير الموت ببراعة. لكن هناك، ترقد الأجساد التي لم تعرف طريقها إلى التراب، أما الأرواح فقد لاقت طريقها إلى السماء، وبقيتُ أنا من بين عائلتي بعد أن كنّا خمسة فقررت بيع السيارة وهجر المكان.


- أين ستنزل؟ سألني بخفوت.


جاوبه صمتي.


- هذه المرة الأولى في حياتي التي أشتري «اس اس ال» حتى أنني لا أعرف اسمها، ضحك البائع كثيراً عندما استطاعَ معرفة ما أريد، لم يكن أولاد الحارة عارفين أن السلاح سيوقعهم في الفخ!... فخ... لا أعرف؟


نظر إلى يمين الطريق وإذ بصورة «بشار الأسد مائلة». تابع حديثه: أبطال هذه المسرحية الواقعية لم ينسحبوا من حياتنا بعد، الذي أعرفه أنه «لم تعد هناك أماكن لتشتاق لك».

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +