المياه كلّها بلون الغرق

المياه كلّها بلون الغرق

كلاهما ممدد بالتوازي على ذات المساحة من الأرض في ساحة «بصمانة» الواقعة في مدينة أزمير التركية، أحمد اللاجئ السوري الثلاثيني، والكلب المتشرّد الضخم. تعجُّ ساحة «بصمانة» باللاجئين السوريين الهاربين من جحيم الحرب، بحثاً عن مدن أكثر أمناً لهم ولعائلاتهم.


أحمد ينام واضعاً تحت رأسه سترة النجاة البرتقالية التي اشتراها لسفرته هذا الصباح باتجاه إحدى الجزر اليونانية، فيما الكلب الضخم الممدّد بجانبه يضع رأسه بكلّ أمان على حذائه، يمرّ بالقرب منهما الكثير من المارة، لا أحد يلتفت إليهما، فقد أصبحت رؤية اللاجئين السوريين مألوفةً في المدن التركية المطلة على البحر، كما أنّ الأرض تمنح عشبها للجميع بالتساوي، لا فرق لديها بين لاجئٍ وكلبٍ شارد.


الساعة الرابعة صباحاً، يستيقظ من كان نائماً في تلك الساحة، ويبدأ التجهيز والاستعداد لرحلة البحر.


يعرف أحمد كما الجميع أنّ احتمالية الموت قائمةٌ جداً، خاصة بهذا الوقت من الشتاء، لكنّه لا يملك فرصةً أخرى للحياة، خلفه بحرٌ وأمامه بحر، يستيقظ... ويسحب بهدوء حذاءه من تحت رأس الكلب النائم، متمتماً: «فلتنم بهدوء في هذه البلاد التي تمنح سكانها الأمان»، يمضي للنقطة المتّفق عليها، ومن هناك تنطلق السيارات الصغيرة بهم ليتمّ تجميعهم في النقطة الرئيسية التي سينطلقون منها بشاحنة كبيرة إلى البحر، يبدؤون بصعودهم على متن الشاحنة التي يطلقون عليها اسم «فان»، شاحنةٌ مغطاة من أعلاها بشادرٍ سميك.


نساءٌ ورجالٌ، أطفالٌ وعجائز... الجميع يتكدّس فوق بعضه البعض، يبدأ الصراخ، آه قدمي... آه يدي... وكأنّهم صعدوا إلى آلةٍ كبيرة لطحن القهوة.


الرائحة النتنة بدأت تتصاعد في الشاحنة، «لا بدّ أنّها شاحنة لنقلٍ الأغنام» يردّد أحمد، يتمّ إصدار الأوامر للجميع بصوتٍ قاسٍ: «بلا صوت... التزموا الصمت مهما حدث، وإلا سينكشف أمر الرحلة من قبل البوليس التركي وسيقومون بإلغائها»، يصمت الجميع، وتبقى الأيدي والأقدام بمعزل عن أصحابها تتألّم بصمت، فلا أحد على الإطلاق لديه نيّة بالعودة، بعد كل هذا الانتظار والتشرّد، فليكن قليلٌ من الألم، لم يمت أحد ألماً!


تنطلق الشاحنة بسرعة، كلما ازدادت سرعتها يشعر ركابها بضيقٍ في التنفس، «ما في هوا.. أمّي ما في هوا» يهمس الطفل في أذن أمه، يسمعه أحمد ويشفق على طفولته المهانة في هذا المكان، ترفعه الأمّ الصغيرة بيديها إلى الأعلى ليتنفّس، أحمد هو الآخر يشعر بضيق تنفسٍ خانق... يصرخ: «أوقفوا الشاحنة، رح نختنق»، ترجوه الأمّ الصغيرة أن يصمت حتى يصلوا: «أبوس ايدك يا أخي... اصبر شوي خلّي هالولاد يوصلوا بأمان، كرمالهم مو كرمالنا»، يصمت أحمد على مضضٍ، حزناً على المرأة التي كانت أقصى أمنياتها أن تصل بطفلها إلى أرضٍ آمنة.


فجأةً، تتوقّف الشاحنة، يبدؤون بإنزالهم بقسوة وخشونة، كما لو كانوا في فيلم أكشن، ما أشبه ما يحدث لهم بالأفلام الأمريكية التي حضرناها، مهرّبون قساة، لا رحمة لهم، قيمة الإنسان لديهم 1000 دولار فقط، وحين يدركون الخطر يتخلّون عنك لأقرب دورية بوليس تركي، أو لأسماك البحر.


ينزل الجميع، عليهم الآن النزول للشاطئ، المنحدر جبليٌّ وخطر، يُسمع صوت طفلٍ يبكي، يبدو أنّه وقع وجرح ركبته، يصرخ بهم المهرّب: «بلا صوت.. بلا صوت»، إذاً ما يهمّ المهرّب هو أن تنزلوا للشاطئ، تدحرجوا، اقفزوا، اجرحوا أنفسكم، ابتلعوا المنحدر الجبلي، أو ليبتلعكم البوليس، المهم «بلا صوت».


يبكي الطفل الصغير، تهمس الأمّ: «هس، بلا صوت حبيبي... بلا صوت»، يساعدها أحمد بحمل الطفل، وينزل الجميع للشاطئ قاطعين المنحدر الوعر بصمت.


إنّه البحر، يراه أحمد أزرقاً وغاضباً، الأمواج عالية، الأمر واضح، على هذه الرحلة أن تؤجّل أو تلغى، يهمس أحمد في أذن المرأة: «الموج عالي... عالي كتير، مستحيل نطلع بهيك وضع»، ترجوه الأمّ مرّة أخرى: «لا دخيلك... منطلع... منطلع، خلينا نوصّل هالاولاد لليونان».


يبدأ الجميع بركوب البلم، معهم عددٌ كبير من الأطفال، يشعر أحمد بسخافة هذا الكائن الذي كان يشاهده على نشرات الأخبار «البلم»، ما أسخفه أمام هذا البحر الأزرق الكبير... أزرق وبشدّة، يرفع أحمد الطفل عالياً لتعيد الأمّ الصغيرة إحكام سترة نجاته، وهي تردّد الآيات والصلوات لكلّ آلهة السماء، آملةً أن تحمي صغيرها، ينتبه أحمد لسترة نجاتها التجارية الرديئة، فيما كانت سترة طفلها من النوع الجيّد، ينبّهها لرداءة السترة التي تلبسها، تردّ: «المهم نوصّل هالاولاد لليونان، مو مشكلة يا أخي... مو مشكلة».


ينطلق البلم بهم، الأمواج عالية، والمياه شديدة الزرقة، كما هي وجوه ركاب البلم، لقد سُحب اللون منها، لا أحد يريد سماع الأصوات، أدنى سعالٍ يجعلهم يشعرون أن البلم سينقلب ويغرقهم، الجميع يريد الصمت. ربما لو لم يكن معهم هذا العدد من الأطفال لكانوا أقلّ حرصاً، يمضون بلا صوت في البحر الذي سبق له أن ابتلع حيوات كثير من السوريين خلال السنوات الماضية، الجميع يدرك أنّه وليمةٌ محتملة لهذا الكائن الأزرق، يبدأ الطفل بالبكاء... تهمس الأم مكرّرةً: «بلا صوت... بلا صوت حبيبي، قربنا نوصل».


الموج يعلو، الصراخ يعلو، واللون الأزرق يغمر البلم بمن فيه، يبحث أحمد هلعاً عن الطفل وأمه، كلاهما بالقرب منه، لكنّ الأم بالكاد تطفو، لن تنجو بهذه السترة التي ترتديها، حتى يصل خفر السواحل اليونانية، تسلّمه يد طفلها، يمسك بالطفل ويطلب المساعدة، لكن... لا أحد يسمع صوت الغريق في البحر، تغرق الأم الصغيرة بلا صوت، يبتلعها البحر بلا صوت، كما ابتلع غيرها من السوريين، كما ابتلع حكاياتهم وأحلامهم بلا صوت، بلا صوت تصل قوارب الإنقاذ، بلا صوت يحملونهم، بلا صوت يصلون جزيرة «كوس» اليونانية، وحده الطفل الصغير يبدأ بالبكاء مستشعراً غياب أمّه، يضمّه أحمد، ويهمس في أذنهِ: بلا صوت يا صغيري، بلا صوت «فالمياه كلّها بلون الغرق».

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +