لا أجراس في المخيم

لا أجراس في المخيم

مثل مأدبة عشاء ليست أخيرة على دمنا المسفوح هدراً في رمل الحقيقة المر، مسكونين بمقولة «الدفع بالأمور إلى نهاياتها، عل شيئاً ما يحدث» وكمن يُسلم جسده لسوط جلاد، علينا أن نستسلم للوجع ونصعر خدنا لعربدة الكون فوق رؤوسنا، علّ فكرةً ما تتفتق، أو نصحو من حملة الندب والنوح على ما فات. لن ننتظر غودو يا أصدقاء لنستجدي المعنى وقد شُرِخت في سقف عقولنا صورة مهديٍّ منتظر، إذ ألبسه ملوك الطوائف عمامة ولوناً وراية، قُتل من أطفالنا الكثير تحت خفقها، وعلا صوت الرصاص حتى لم نعد نلتقط شيئاً من وشاية الحلم المعفر بالركام، وما زالت «بينلوبي» تنكث نسجها والحراس على الأبواب، وقلاعنا ليست حصيفة بما يكفي للفرح، والنسج الأقرب للواقع الشعبي ماهو إلا لأحلام ووعود ما تلبث أن تخيب، ثم البحث عن أخرى لترميم حلم يشغل الروح لتنقضي الأيام. تحول السوريون لورشات متواشجة ترقع حياتها بالتصبر وتحترف الحلم والسراب، نمر برموز الانتظار إذ لا نجد في الأساطير آلهة انتظار، فظلت الأم عبر المدى رمز انتظار وكان الابن سيد الغياب.


للأعياد رنينها الخاص ووقعها المحتفي بلمَّة العائلة، فأصبحت في صورها المفرحة مرتبطة بالحِنّاء عند أبناء الريف، ومشاعل النار. وفي صورها الجريحة، هي وقفة تفقد الخارجين من دفتر العائلة أو زيارة القبور، فكيف بسُبَّحة العائلة تنفرط ولا قبور تزار ولا سجين ترتجى عودته.


رأس السنة ليس عيداً شرقياً في الميثيولوجيا الرافدية، والاحتفاء به جاء من تلاقح ثقافة السريان النصارى مع ثقافة شعوب سوريا الطبيعية السريانية، وغير السريانية ممن اعتنقت الإسلام، فتحول من عيد ديني إلى مناسبة اجتماعية، والحديث عن بابا نويل ليس ترفاً فمع قدوم رأس السنة يصبح بابا نويل بمثابة حلم بعيدٍ يوشك على التحقق. لكن في بحثنا عن رغبة تكسر البلادة وجليد الاعتياد، ربما نشطح لنقول إن بابا نويل «الختيار» محني الظهر لثقل إزاره من وزر أحلام الصغار، ورغبات الكبار وحاجاتهم، فقد ناء بحمل إنسانيٍّ تكاسلت عنه هيئات الأمم والمجتمع الدولي، تعوّل عليه إغاثة النازحين في بلدانهم ومنها، كما سيطلب الأطفال منه أن يوقف الحرب ليتمكنوا من العودة واللعب مع أولاد الجيران. هو عبء عجز عنه الإبراهيمي، عنان، وديميستورا...!


فبابا نويل ليس إلهاً للخير ليوقف آلهة الحرب، ولا أنكيدو لينقذ تموز، لكنه بابا نويل الإنسان، ولا إله عابر لأساطير الدول لينزع عن سيزيف الشعوب صخرة الطغيان، ولأن التعامل مع الكبار يسبب صداعاً عُصَّابياً، اختار التعامل مع الأطفال ولهم، البابا النقي بلحيته الطويلة البيضاء وهداياه المفاجئة، حتى الصغار كانوا يحبون الثلج لأنه قد يأتي ببابا نويل الشيخ الطيب، « لا أريد أن يأتي بابا نويل فقد أموت من البرد في الثلج» تقول طفلة في المخيم. فترتج الذاكرة وتنضح بالشجون والقهر؛ ماعاد الأطفال يحبون الثلج الآن فقد يموتون برداً، وعلى بابا نويل أن يُفهِمهم أن الثلج لم يقتلهم، لكنه البرد؛ برد الطقس، وبرد الضمير الإنساني الذي لم يترك له دوراً، ولم يقدم له ما يملأ جعبته لأطفال سوريا؛ ولعله تساءل كيف يعبر الحدود، وأي كتيبة سترافقه وتحميه ثم تقتله لتَصِم غيرها بدمه، بابا نويل ليس أكثر من أب عاجزٍ، كأي أب سوري يعجز في تصبير أطفاله الجياع، ربما هو غارق في التفكير كيف سيتدفأ في مخيمات النزوح، أو كيف يواجه أطفالاً يرتجفون بأسنان تصطكُّ، وشفاه مزرقَّة؛ سيخلع معطفه المصنوع من الفرو ويقدمه لطفل المخيم، هداياه بسيطة رخيصة الثمن رغم أهميتها، أرغفة خبز، وقطع من الصمون اليابس، وبعض لفائف الزعتر، وعلب البسكوت؛ ربما سيكون محرجاً من فراغ جعبته من حاجات كثيرة، كالأغطية والفُرش والثياب والأدوية، لا شكّ سيرمي قبعته لطفل مبلل بالمطر، ويقص لحيته لينسج منها قفازاً لطفل صغير؛ ويلتف معهم يحكي لهم حكاياتٍ وقصصاً تخفف عبئ آبائهم في اختراع الحكايا والأساطير، لكي يناموا حالمينَ بغد أجمل.


الدقائق تمشي والوقت يهدر نحو منحدر بلا قرار؛ رنّ جرس ساعة «بيغ بن»، لم يفاجئنا رأس السنة ولم يظهر بابا نويل، ليس من تلفزيون في المخيم ليدرك الناس نهاية العام، ومر الليل عادياً مثل توارد خبر الموت اليومي في شريط الأخبار.


كم هي الروح مسكونة بالأنين وتواقة للرنين والأجراس، الأجراس يشتاقها الأطفال، لا أجراس للكنائس تقرع في المخيمات، وأجراس الوطن بعيدة، لفَّها السواد، ضاع صوتها بين طبول الحرب ومكيدات الموت السريع التي تحملها الطائرات.


بابا نويل لم يأت، لأنه معتصم على أطراف أحد المخيمات؛ وإذا لم يره أحد؛ فلن نعتب عليه؛ بل علينا أن نبحث عنه، ربما يجده متسلقو الجبال على إحدى القمم الشاهقة المكسوة بالثلوج، معتزلاً وناضياً ثيابه عن جسده الهزيل، خجلاً من عجزه أمام أطفال سورية، عارياً، وميتاً تجمدت قطرات الدمع على خده ولحيته البيضاء المتوحدة مع الثلج، ومن ظهر على الفضائيات هو بابا نويل آخر ليس يعني السوريين بشيء سوى الغصة، «بابا نويل لن يأتي لأني انتظرت أبي كثيراً ولم يأتِ» هكذا قالت طفلة يتيمة وأدارت ظهرها وأولمت وجهها للغياب.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +