عام الجوع السوري

عام الجوع السوري

لا بدّ أن السوريين يتذكرون جيدًا صيفَهم القائظَ، حينَ كانوا يحارونَ في كيفية الاختباء من الشمس ومداراة الحرارة، بينما يتنقّلُ ضيوفُهم القادمين من أصقاعِ الأرض بخفّةٍ ومتعة، فرحين بإجازاتهم التي يقضونها في مكانٍ يوفّرُ لهم كلّ أسباب المرح والاسترخاء، نظرًا لتنوعه المناخيّ، ولسهولةِ الانتقال بين بيئاته، وللأسعار الرخيصة التي يعزّ على السائحِ إيجاد مماثلٍ لها في مكانٍ بهذا الغنى في العالم.


فإذا كانَ السوريّ يشتهي البضائع والمواد غير المغشوشة المتواجدة في بلدانِ الجوار، فإنّ الأسعارَ المنخفضة كانت كافيةً لاستجلابِ سكّانَ هذه البلدان وسواها، إلى سوريا بهدفِ التسوّق.


وإذا كانَ السوري يتذكرُ صيفهُ، فإنهُ لا بدّ يتذكرُ شتاءهُ أيضًا. إذ على الرّغمِ من وجودِ كتلةٍ بشريةٍ سورية لا تعرفُ شيئًا عن السياحة، بل وتعتبرها –مجبرةً- ترفًا هي في غنى عنه. إلّا أنّ عمومَ سكّانِ تلك البلاد، يعرفونَ جيّدًا أنّ زيارة الأماكن الشتائية كالزبداني ومحيطها، تعتبرُ الأمثلَ لمن أرادَ إلى الثلجِ لقاءًا.


الزبداني ومحيطُها، حيثُ يكثرُ الحديثُ في أوساط الممانعة، عن وجودِ طريقٍ سريّ يصلُ إلى القدس مباشرةً وبلا استراحات. لو كان السوريون يعلمون ذلك، لكانوا سلكوهُ بدونِ شكّ. لكنّهم لا يعلمون!


في الزبداني، في نفسِ المدينةِ ذاتِ المصايفِ والمشاتي، عرضَ رجلٌ قبلَ نحوِ شهرٍ سيارتهُ للبيعِ مقابل عشر كيلوغرامات من الأرز، أو خمسة كيلوغرامات من الحليب المجفف. غيرَ أنّهُ ماتَ جوعًا بعدها بأيامٍ قليلة.


وإذا أردنا تجنّب الخوض في السياق الأخلاقيّ للثورة السورية، في أسبابها، وحاجتها وضرورتها، وإذا أردنا تجنب النقاش في ماهية النظام السوري وحلفائهِ الإلهيين وغيرالإلهيين، فيمكنُ أن نقول إنه لا ينفعُ مع الجوعِ ندم، من غير الأخلاقيّ وغير الإنسانيّ، أن يخرجَ أحدهم ويقول للسوريين: هذا ما نلتموهُ بسببِ ثورتِكم. لا يمكنُ تصنيفُ جملةٍ كهذه إلا في خانة جمل التشفّي.


الصورُ التي تصلُ يوميًا من سوريا تبدو طعنةً حقيقيةً للإنسانية، لإعلانها العالميّ، لمنظماتها، للقائمين على المؤسسات الناطقة باسمها. والتشفّي في حالةِ الجوع فعلُ قتلٍ، قتل غير رحيمٍ البتّة.


المجاعةُ السورية. أليسَ هذا عنوانًا كافيًا لبداية العام 2016؟


إنهُ العنوانُ الأشدّ دلالةً على مآلات العالم المتحضر، ليس من منطلقٍ شوفينيّ، ليس لأنّ مدنَ سوريا أجملَ أو أكثر أهمية من سواها، ولا لأنّ دمَ السوريين أشدّ نقاءًا من دمِ باقي البشر، ولا لأنّ الجرائمَ المرتكبةَ بحقّ السوريينَ هي الأقسى في التاريخ، فالتاريخُ مليءٌ بالمجازر، مليءٌ بالجثث، وبالدم. لكنّ كلّ هذا لا يعني أن يمرّ مشهدُ الجوع السوريّ باعتياديةٍ كأنهُ مشهدٌ طبيعيّ. سيعزّ على السوريّ البسيطِ نسيان فكرة أنّهُ يموتُ جوعًا، وهو الآتي من بلادٍ كانت تُلقّبُ بـ «أمّ الفقير». سيعزُّ عليهِ، وهو الذي استقبلَ ملايينَ اللاجئينَ في حياتِهِ، أن يجدَ نفسهُ محاطًا بقوىً تمنعُ عنهُ الطعام والشراب.


معيب ومخجل أن يجوع السوريّ، السوري كان يطعم قطط المنزل من طعام أطفاله، السوري كان يعمل ويكدّ ويقري ضيوفه، وحين يريد التنزه كان يقنع أطفاله أن عشب طريق المطار مكان جيد للنزهات.


ولكنّ السؤال، لو لم يكن السوريّ كريمًا، ولو لم تكن سوريا بلادًا «رخيصة»، ولو لم يستقبل كلّ هؤلاء الهاربين من الحروب، ولو لم يمتلك أماكنَ اصطيافٍ وتنوعًا مناخيًا، هل يبرر هذا حصاره وقطعَ إمداداتِ الحياةِ عنهُ لقتلهِ جوعًا؟!


أن يجوع السوري اليوم، فهو ليس الأول في التاريخ، ولن يكون أول جائع يأكل أكباد البشر، ولا يلامُ جائع... على العالم بأسره أن يتذكّرَ ذلك جيدًا.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +