لم

لم

لم أسمع أزيز الرصاص. لم أركض هربًا من مروحيّة وطنيّة تلقي برميلاً في سوقٍ شعبي. لم أنبطح أرضًا عند وقوع تفجيرٍ في الشارع. لم أكن حاضرًا في بيتنا عندما سقطت قذيفة «صديقة» وقتلت جاري وجرحت أمّي. لم يستوقفني حاجز عسكري ويكسر"هويتي". لم يشتمني أحد الشبيحة لأنني من الرّقة «الداعشية». لم أقف في طوابير الخبز لساعاتٍ كي أحصل على خمسة أرغفة لعائلتي. لم أعطش على مرأى من الفرات والعاصي. لم ينخر عظامي البرد كما نخرَ عظام إخوتي وأطفالهم. لم تنقطع الكهرباء والماء لثانية واحدة. لم أجد صعوبة يومًا في تأمين ما أحتاجه من طعام وأكثر مما أحتاجه. لم أفكر يومًا بتكلفة زيارة الطبيب وشراء الدواء. لم أفكّر بصعوبة الوصول إلى المستشفى في ليل الاشتباكات والرصاص المجاني. لم أعجز يومًا عن شراء الثياب فوق حاجتي. لم أهرب من دوريّة أمن. لم يعتقلني أحد لأنني قلت: «لا للاستبداد ونعم للحريّة». لم يصفعني عنصر أمن؛ لأنني قلت: «الموت ولا المذلة»، لم يضربني بالكرباج أو يرفعني على «الدولاب» لأنني صرخت: «واحد واحد واحد... الشعب السوري واحد». لم تصطبغ جدران المعتقل الوطني والطائفي والمذهبي والعرقي؛ لأنني حلمت بوطن للجميع. لم يقف قريبٌ لي عند باب أحد فروع الأمن ليأخذ ساعتي وثيابي وكلمة «ميت». لم يدفعني أحد الجنود اللبنانين على الحدود؛ لأنني لم أقف بانتظام في الطابور. لم يطلق جندي تركي الرصاص نحوي؛ لأنني تسللت هاربًا عبر الحدود. لم ينقطع الانترنت لحظة، وكنت حاضرًا في كلّ كلمةٍ وخوفٍ واستغاثةٍ ونداء، أمام كلّ صورة أكبر من اللغة. لم أذهب إلى الصلاة بقوّة سيوف الله المسلولة. لم أجبر على إطالة لحيتي وتقصير ثوبي. لم يستوقف أحد رجال «الحسبة» زوجتي؛ لأنّها ترتدي حذاء أحمر تحت نقاب ودرع أسود. لم يشتم أحد الشبيحة ربّي. لم أحاصر جوعًا وقهرًا. لم ألاحق بالسّيف والسّوط والرصاص. لم أنم في مخيمات اللجوء على نفسي وفي نفسي من البرد والقهر. لم تقع خيمة على عائلتي تحت وقع الثلج، لم أغرق بالماء وشماتة الجار.  لم أنزح في تسعة بيوت وقرى كما نزح أبي وأمي. لم أزحف على بطني في الممر كما فعل ابن أخي الصغير هلعًا من طائرة تخترق جدار الصوتِ والقلب. لم أستمع لوقع أقدامي على طين المخيمات، لم أنظّف حذائي بقطعة خشبٍ من الوحل والذل. لم أمدّ يدي أطلب لقمة تسدّ جوعي. لم أشهد اشتباكًا بين طرفين غير معنيين بحياتي، لم أكن درعًا بشريًا، لم تقصف بيتي طائرة روسية أو فرنسية أو عربية، لم أميّز بين صوت السوخوي والرافال وال«اف16»، بين صوت الشيلكا والدوشكا، لا أعرف هذه الأصوات كلّها. لم... ولم... ولم...


 ومع هذا ينهرني الهدوء فأنتفض كأنّني الأرض والضحيّة والبندقية. أهرب دون أن أجد ملجًأ أختبئ به. أمشي في الشارع خائفًا. اليد التي تسلّم علي لاتهبني أكثر من الشك والألم. أنا ضحيّة الغصات التي لايمكن شرحها وتفسيرها، ضحيّة الكابوس الذي صرت تستدعيه عندما يأخذك إلى عتمة تركض فيها وتصرخ، ضحية الحنين عندما يجيء على هيئة حلم بلقاء فتذرف دموعك حارّة على الوسادة، ويأخذك النشيج لأنّك صحوت، وتغضب من زوجتك لأنّها أيقظتك قبل «بلّ» الشوق وسقوط الغياب، ضحيّة المائدة الممتلئة بالطعام أمامك، ضحيّة اليأس غير المبرر في نظر الرائي، ضحيّة الأسئلة التي تسألك عن وطنك وأهلك ثم تهملك وتهمل وجعك، ضحية الإجابات التي لاتشرح شيئًا، ضحيّة الأخبار العاجلة التي تخص حياة كاملة تركتها هناك، ضحية التحليلات والنقاشات التي تستثنيك، ضحيّة الدّم الذي لاتراه ويسيل من جبهة الوطن، ضحيّة حاجتك إلى سماع صوت الرصاص ورؤية الدم كي تتوازن. ضحيّة الشفقة والتعاطف، ضحيّة التشفي ، ضحيّة القدرة على الحديث والامتناع عنه، ضحيّة الاغتراب الذي ماينفك يشدّك إلى قاع المأساة. أنت جسدها وروحها، فأين تهرب؟!

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +