ثقافة الرصاص

ثقافة الرصاص

أتذكر حجم الرعب الذي كان ينتاب الحضور في الأعراس والأفراح، عندما يُشهر أحد المتحمسين سلاحه «المرخّص حينها» ويطلق النار ابتهاجاً بالحدث، كانت تهيمن حالةٌ من القلق والاستغراب وسط موجة اعتراضٍ على هذا السلوك الطائش وتحذيرٍ من عواقبه الخطيرة، بالرغم من أنه رصاصٌ صديق، حيث لم يكن هناك ثقافةٌ للرصاص ولا حضور للبنادق إلا في حالاتٍ نادرة ومثيرة للريبة، بل إن كثيرين كانوا يخافون صوتَ مفرقعات الأعياد ويتذمرون منها. كان هذا قبل أن تُجر البلاد إلى حلبة صراع أصبح فيها السلاح حكماً غير نزيه، ولم تعد مهمته تقتصر على القتل والقتال، بل صار له أجندات وثقافات متنوعة، يلتبس فيها الهدف والغاية، ويلتبس رصاص المعارك مع رصاص الفرح والحزن والغضب والانتقام. لقد فتحت الحرب آفاقاً جديدةً للسلاح وصار يمارس أدواراً عديدة، بعد أن أصبح الممثل الأكثر حضوراً على مسرح الأحداث.  


لقد بدأ عام 2016 على أنغام الحرب، بألحانٍ مختلفة، حيث احتفل الجنود والمقاتلون برأس السنة هنا، احتفالاً بنكهة المعركة، فالموت والخسائر لا تعني لهم شيئاً ولا يشعرون بالألم والفقد الذي ينتاب الكثيرين ممكن كانوا يودعون العام بصمتٍ ومرارة، هم فقط يشعرون بنبض بنادقهم التي كانت سبباً في مقتل العيد عند الكثيرين، تلك التي كانت تلعلع في كل مكان وكأن بركاناً قد انفجر، فحتى تعبيرهم عن الفرح غدا بلغة الموت، وكأنهم يطلقون النار على العام القادم، لقد ولى زمن المفرقعات والألعاب النارية، وطغى صوت السلاح، وفي حالات كثيرة تطور الاحتفال الى رمي القنابل واستخدام الرشاشات، وكان من الممكن أن يتحول رصاص الفرح هذا إلى رصاص مأتمٍ ومأساة، كما حدث في مناسبات عدة أودت بحياة أبرياءً كثر، حيث مارست الطلقة الحمقاء دوراً آخر فقتلت بدل أن تُبهج، ولو أن ثمن نيران العيد وُزّع على المحتاجين والمنكوبين الذين نسوا شكل الأعياد والفرح، والذين كانوا احد ضحاياها في أحداثٍ كثيرة، لكان قد أدخل شيئاً من البهجة والاحتفال الى قلوبهم المكسورة، بدلاً من تذكيرهم بحرب يسعون الى نسيانها.


 البنادق ذاتها التي أججت نار المعركة، تمارس ثقافةً مختلفة في التشييع، عندما تُشيّع «شهيداً» كان ضحيةً لحملها في مهمة ما... فيلعلع رصاصها، بذات طريقة الفرح وبذات وقع دويه في المعركة، ولكن هذه المرة لغاية أخرى، هنا تلتبس المشاعر، هل هو رصاص حزن أم رصاص غضب؟ هل هو احتفال بالشهيد أم تفريغ لحالة من الاحتقان المزمن؟!


يتكرر المشهد حين يعود أحدهم سليماً من جبهةٍ ساخنة أو حين يُحرر مخطوفٌ من الأسر، فيمارس السلاح دوراً جديداَ، يترجمه حاملوه بتعابيرهم وانطباعاتهم المختلفة، ولكن بثوب الحرب ذاتها وبصوت كصوتها. صوتها الذي يدوي ويزمجر حقداً وغضباً عند اقتحام منطقةٍ وتدميرها وإحراق كل حيٍ فيها، هنا يقوم السلاح بدوره الأساسي ويتكلم بلغته الأم، فيقتل ويبيد ويشرد، وبعد أن يصبو إلى مآلاته، يعود منتشياً بدورٍ جديدٍ ليرقص على جثث ضحاياه ممارساً طقس الاحتفاء بالنصر، نصره على الحياة، نصر الجلاد على الضحية، فتندلع نيرانه ابتهاجاً وكأنها عرسٌ من الحقد والثأر، بعد أن أحدثت خسائر ونكباتٍ موجعة في أماكن وقلوب صارت تلقبُ بالـ ثكلى!.


السلاح ذاته أحياناً يمارس أدواره بصمت، فيلعب دور المراقب المتربص والسجّان، كأن يطبق الحصار على مدنٍ وأحياء، يجعلها حضوره المرعب تموت جوعاً وقهراً حين يتحول إلى جدران سجنٍ كبير يمنع عنها الوجود دون حاجةٍ لأن يطلق أي رصاصة، فهي قد تقتل دون أن تخرج. وقد تقود الناس الى جبهات القتال إكرهاً بمجرد أن تُسلط عليهم، وقد تعتقل وتهجِّر وتحدث عطباً في النفس والروح لمجرد حضورها الكثيف في المشهد اليومي.


قديماً كانوا يقولون لمن يحمل سلاحاً: «انتبه! إن الرصاص أعمى»، لكن هذه التحذيرات لم تعد تجدي أي نفع، لأن السلاح اليوم أصبح هو من يوجّه حامله، بعد أن صار للرصاص لغة وثقافة، وأصبح يرى ويسمع ويتكلم.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +