شجاعة الخائف

شجاعة الخائف

كان يا ما كان في قديم الزمان، ليس في قديمه تمامًا بل منذ 5 سنوات، قام الشعب السوري بثورة.


في تلك الأيام، ارتفعت المعنويات، واختفى الخوف، إلى أن بدأت أجهزة المخابرات بلم الشباب من كل مكان.


في ذلك الزمان، لم يجد عنصر المخابرات داعيًا لإخفاء مراقبته لكومبيوتر صبية جلست في مقهى الروضة، في الطرف المقابل من طاولته، فنهض والتف حولها ونظر إلى شاشة جهازها، ثم عاد إلى كرسيه بكل طبيعية.


بدأ الأصدقاء يختفون واحدًا تلو الآخر، وكانت كلمة واحدة على الموبايل الأكثر تناقلًا: «أخدوه»، وكانت تلك الكلمة كافية لتجعل ركبي تسيب ذعرًا. كان كل صديق يخرج مولودًا من عالم الرعب، يزيد من خوفي، رغم أنني لم أسمع قصص التعذيب، إلا أن قصص وتفاصيل صغيرة لازمتني، وحرمتني من الاستمتاع بتلك الروح الثورية الغامرة، ولاحقتني في رحلتي اللاحقة عندما خرجت من سوريا، وظلت تزورني في كوابيسي.


لم أرفع صوتي بالهتاف في الشوارع واكتفيت بدندنة أغاني الثورة في المطبخ بعد أن أتأكد من إغلاق الشباك. ولم تقترب مظاهرة واحدة من شباكي في المناطق «الآمنة» التي صادف سكننا فيها.


في يوم من ذلك الزمان، تمت الدعوة لمظاهرة نسائية في ساحة عرنوس، استجمعت كل شجاعتي، ونزلت إلى دمشق، بحذاء رياضي كما أوصاني الأصدقاء كي أتمكن من الفرار بسرعة، كان من المفترض أن أصل في الثالثة ظهرًا، ورغم أنني وصلت باكرًا إلا أن بحثي عن مكان لركن سيارتي، جعلني أصل في الثالثة وأربع دقائق، وكان الاعتصام قد فض والأمن يعج في الساحة.


انتشرت في دمشق حينها، لعبة ممتعة، لعبة إيجاد المعارضين، وتبادل المواقف السياسية بلحظة، لمحة، أو نظرة، أو تعليق.


في تلك اللعبة، كان يكفي أن يقول لك معقب معاملات، لن تحتاج لتجديد هذه الورقة بعد سنة، فلن يكون هناك ضرورة، الدولة كلها على كف عفريت. أو أن تسأل أحدهم: من أين أنت؟ فيرفع رأسه بعزة ويقول: من درعا. أو أن يبتسم لك جار سمع أحاديثك من الشباك المفتوح سهوًا وأنت تناقش بحماسة موعد سقوط النظام. كانت تلك الرابطة سحرية، تضمن التآخي الفوري بينك وبين ذلك الشخص. وللحظة كنا نتخفف من قلقنا وحذرنا لأننا لم نكن وحدنا. كنا كثرًا، في المحلات والشوارع، في البيوت والحارات، كنا سوريين ويجمعنا ذلك الحلم.


  في يوم أسود من ذلك الزمان، أوقفنا السيارة مؤقتًا في البحصة، بقيت في السيارة ريثما ينزل زوجي ويحضر ما نحتاج، فذلك أسهل من أن نجد مكانًا لركن السيارة، خلال لحظات وصل «ميكرو» وتوقف على الجهة المقابلة لنا من الشارع، ونزلت منه مجموعة من الرجال، وفي لحظة غريبة وسينمائية، نظرت من مرآة سائق السيارة وهو زوجي يومها، فرأيت أحدهم يخرج مسدسًا من خصره، ركض الرجال إلى مكان ما قريب، وعادوا ومعهم شاب، كان يقاوم اعتقاله بكل شراسة، وكنت أنا انظر في المرآة. أحد الرجال الذين حاولوا اعتقاله اتصل بلاسلكي، فخرج  من مبنى محافظة دمشق ثلاثة رجال، مردة، كان كل واحد منهم بحجم ثلاثة أشخاص طبيعيين على الأقل، اتجهوا نحو الشاب، وساعدوا في وضعه في الميكرو، أغلقوا الباب، في هذه اللحظة، عاد زوجي، ورأى وجهي الممتقع، فشغل السيارة، وانطلق. وما زلت حتى اليوم أندم أنني لم أحفظ وجه هذا الشاب، وأنه ضاع بين وجوه المردة، وأنني لم أفعل شيئًا، أنني تجمدت من الرعب لدرجة أنني لم أصدر حتى نفسًا واحدًا. وشعرت بمرارة الذل في حلقي وابتلعتها بدل أن أبصقها في وجوههم.


في هذا الزمان، صار كثر يحكون كم كانوا أبطالًا، وصار الذين لم يعيشوا الثورة يظنون أننا كنا كلنا شجعانًا، إلا أنني لم أكن بطلة ولم أكن شجاعة، ولكنني كنت مع هذه الثورة ولا زلت، كنت ألعب ألعابها، وتعرفت خلالها إلى أبطال مذهلين، عملوا بصمت وحب، وحلموا، وأنا كنت شريكتهم في ذلك الحلم الجميل النقي: سوريا حرة.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +