الجالية السورية

الجالية السورية

تُعرّفُ الجالية في قاموس المعاني بأنّها: «جماعةٌ من الناس من موطنٍ واحدٍ، يعيشُون في وطنٍ جديدٍ غير وطنهم الأصليّ». كما أنها لغويًّا أيضًا، تذهبُ بنا إلى تعريفها كـ: كجماعةٍ من النّاسِ الذين جلوا عن وطنهم الأصليّ إلى وطنٍ آخر.


لم يحدد التعريفُ ما إذا كان بالإمكانِ استخدامُ المفردة في سياق الحديث عن النّاس الذين تمّ إجلاؤهم قسرًا عن أرضهم. في الحالةِ السورية سيكونُ غيرَ أمينٍ البتّة اعتبارُ السوريين الذين انتشروا في الأصقاعِ عمومًا جالية، وفق التعريف السابق. حيثُ أنّنا –وبصرفِ النظرِ عن رأينا في الفائدة التي سيجنيها السوريون من غربتهم- لو سألنا أحدًا منهم عن رأيهِ في الغربةِ قبلَ انطلاقة الثورة السورية حتى خلال عامِها الأول، لكان الردُّ بلا تردد: لا شيء يعادلُ الوطن.


في صغرنا، كانت الجالية مفردةً إخباريّة بحتة، نسمعُها في النشرات المسائية أحيانًا، حيثُ يمكنُ لها أن تظهرَ لامعةً خلال زيارات الرئيس إلى إحدى الدّول، حيثُ تستقبلُهُ الجاليةُ هناك استقبالًا حافلًا (لابدّ من إعلانِ التعاطفِ ههنا مع مفردةِ «حافل»، حيثُ أنّها غالبًا ما تكونُ ملحقةً بكلمةِ «استقبال»). على أيّ حال، كانَ يمكنُ أيضًا أن نسمعَ تعبيرَ الجالية عن طريقِ أهلِنا أو أصدقائنا المغتربين، خلال زياراتهم الخاطفة لسوريا، وكنا نعتبرُ المفردةَ خاصّةً بهم، كانت تبدو لامعةً جدًا، مثلُ أحذيتهم الجديدة، وقمصانِهم ذاتِ العلاماتِ الغريبة، والتي لطالما اعتبرنا وجودَ أحرفٍ أجنبيّةٍ على ياقاتها الداخلية ماهو إلا دليلٌ على فخامتِها وغلاء أسعارِها. كذا كانت «الجاليةُ» بالنسبةِ لنا، أمرًا قادمًا من بلاد الاغتراب، وتبدو مكتوبةً بحروفٍ أجنبية!.


لم يخطر في البال أن يكونَ أحدُنا جزءًا من جالية، ولكنّ الرياحَ شاءت أن تذهبَ بنا السفنُ، إلى حيثُ يصيرُ بإمكاننِا التمتّع بكوننا صرنا بعضًا من كلّ، جزءًا من جماعة. لكأننا دائمًا نبحثُ عن الجماعةِ لننخرطَ فيها، في تعبيرٍ لا واعٍ عن ضعفِ مخيّلتنا في اجتراحِ كيانٍ فرديّ لكلّ منا، فالظهرُ يكونُ محميًّا أكثرَ ضمنَ جماعةٍ ما، لكأنّ الجماعةَ تسيرُ في مظاهرةٍ ما، وعلى كلّ فردٍ من أفرادِها أن ينخرطَ في الوسط تمامًا ليتفادى رصاصةً من هنا أو من هناك.


منذً يومين، في تشييع جنازة الدكتور يوسف زعيّن، رئيس الوزراء الأسبق، الذي توفي في ستوكهولم السويدية بعد صراعٍ مع المرض الذي رافقهُ من سجونِ حافظ الأسد قبل نحو خمسةٍ وثلاثين عامًا، كانَ يمكنُ أن يتعرّفَ المرءُ عن قرب على فكرة الجالية، كنتُ منشغلًا طوال الوقت في تفحّصِ وجوهِ السوريين في مجلس العزاء، شبابٌ من كلّ المدن السورية، من درعا إلى القامشلي، منشغلونَ بترتيبِ كافّة الأمورِ المتعلقة بمجلس العزاء، القهوة المرّة، الكراسي، استقبال الضيوف، مساعدة العالقينَ في ثلجِ العاصفة على إخراجِ سياراتهم، وبقية التفاصيل التي تُشكّلُ طقسَ الجنازةِ في سوريا.


المشهدُ برمّتهِ وعلى بساطتِه، كانَ يعني أنّهُ صارَ بإمكانِ أحدِهم القول: حضر أناسٌ من الجاليةِ السورية في مجلس العزاء. في تلكّ اللحظة، في اللحظة الجمعيّةِ تلك، يشعرُ المرءُ أنّهُ جزء من جالية، وقد لا يكرهُ فكرة أنهُ جزء من جماعةٍ عندئذٍ، لا لشيء، بل لأنّ الجماعة في تلكَ اللحظة تحديدًا لا تعني الجالية بقدر ما تعني «العُزوة»، والتي هي تعريفًا: «قومٌ ينتسبُ لهم المرءُ ويشدّونَ من أزره».


على أيّ حال، كانَ السببُ المباشرُ لكتابةِ هذه المادة، هو حاجة السوريين، بعدَ أن حضرتُ العزاء الأول خارجَ سوريا، لأن يقيموا ويعيشوا طقوسَهم كما اعتادوها في بلادِهم، حينَ تسمعُ «سورةَ ياسين» منبعثة من مكبرات الصوت، تشعرُ أنّ السوريين يدافعونَ، فيما يدافعون عنه، عن حاجتهم لسماعِ سورةِ ياسين في مجالس عزائهم، هم الذينَ صارت الأرضُ، كلُّ الأرضِ، مدفنًا لهم، وصاروا يموتون بلا طقوس مرافقة. إنهم يدافعونَ عن حقّهم في حياةٍ كريمةٍ، تُختتمُ بجنازاتٍ طبيعية لا أكثر.


غير أنّ المادّةَ البسيطة أعلاه، أخذت نفسها بنفسِها لتنأى عن فكرةِ الطقوس تلك، وتذهبَ باتجاهِ كارثة أنّ السوريين، الذينَ لم يكونوا مواطنينَ بقدرٍ ما كانوا رعايا منذ خمسين سنة، منّت عليهم الحياةُ مشكورةً، وصاروا جاليات.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +