هل سيبكيني الأصدقاء كناجي الجرف

هل سيبكيني الأصدقاء كناجي الجرف

بعنفوان البدوي المعاشر للخيل أشتهي موتاً يليق بتمردي، ولطالما استدرجته فأخطأت رأسي رصاصة القناص، والرصاصة التي قتلتك يا أيها الثائر بجانبنا أو بعيداً عنا اخترقتنا ومضت إليك، كل ما في الأمر أنك شهقت، وأننا بقينا نجتر موتك، فالموت لا يوجع الموتى لكنه يوجع الأحياء كما قال محمود درويش.


لست أتمنى أن أموت في زاوية معتمة، بل هكذا وفي وضح النهار. ليس مهماً أن يكون ذلك بسكين أم برصاصة كاتم صوت، والمهم ألا أموت كما البعير بغير رسالة أتشبث بها كطودٍ أو فُلكٍ في هذا الطوفان الشاسع. كثوارٍ ومثقفين ونشطاء لكلٍ منا جهده، ولست في إطار طرح مقارنة أو مفاضلة، إذ يسعدني أن نتسابق في ثورتنا ولا يعيب أي سائر في نهجها أن يبذل جهده في اقتفاء أثر من سبقه.


ناجي العلماني الذي بكاه الثوار، فليسَ كل من نطق الشهادتين وكبّر في المساجد داعشيٌ أو جبهوي، ولا يخفى علينا أن الشعوب تستحضر عند الشدائد تدينها وقيمها، وتكاد شعوب الشرق تكون ناضحةً بذلك لهول ما ذاقته من ويلات.


أنا المرمي على الهامش في حرب الثنائيات الكسيحة، والمحسوب على الإسلاميين المتربصين بي أصلاً ــ لمجرد إدانتي تحويلَ العلمانية من فكرة ومنهج؛ إلى نزعة متحزبة منغلقة على كل من هو ضدها، ومتلقفةً أي منتج من قوى «عولمية»، ولم تحصّن نفسها بوضع حدودٍ بين العولمة المتوحشة والعلمانية التي تختلف عنها تماماً، ولرفضي التعدي على الإسلام منذ اقترحتُ التمييز بين الدين، والفكر الديني المشوِّه له؛ تلك التعديات التي خدمت جهاتٍ متشددة، لتجد لها رصيداً في غياب المشروع المحتوي لنزعة الشباب تجاه عملٍ وكفاحٍ له جدوى وإطار ومنهج واضح لا يجد نفسه بمجرد المشاكسة، أو تصيّد أخطاء مشاريعَ لم تُستنفذ ولم تتبلور لمجرد أننا محكومون برد فعلٍ عنيفٍ تجاه انتهاكٍ عالمي واضح، تجاه قضايانا التي أنتجت طائفيةً، واقتتالاً، ونزعاتٍ عرقية ومذهبية لم تشهدها بلداننا حتى أيام العثمانيين وسفربرلك، تلك التي سميت خلافة عثمانية وارتكزت على عقيدةٍ إمبراطورية، ولم تقم بإبادة أي من مكونات سكّان بلاد الشام على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم وأديانهم، خلافاً للجغرافيا التركية.  


لستُ في موضع المقارنة بيني وبين من اتسعت صحيفته الجميلة لمقالاتي، فكلانا ثائرٌ عمل على اشتغال المثقف لئلا يخذل ثورته، ولجَسرِ الهوة بينه وبين شعبه، وكلٌ في ميدانه. لكن الحدث يبدو أنه يحتاج آلةً إعلامية وانفعالاً وحمّى، وفي حال تساوت هذه الأمور كلها فضلاً عن التساوي في قيمة الدم، فإن هناك مقياساً آخر هو الفاعل، هويته، وطرحه.


ينفعل بعض الناس بالحمى الإعلامية، ويسارعُ في لعن داعش، بل والإشارة إليها بسرعة، ويخضع لحمى القطيع، أو المجتمع النفسي كما يقول فرويد، إذ تغيبُ المحاكمة العقلية، وتغلبُ روح الجماعة المتخيلة التي قد تؤثر في الجموع تفتيتاً، أو استئصالاً، أو تجييشاً.


هناك شيءٌ غير الدم إذن؛ هوية القاتل ورنين اسمه ولمعانه تحت وهج شموس الإعلام المرسومة المسارِ والهدف، ولعلي إذ كتبت عن الدم الأزرق قبالة دمائنا الحمراء التي لا قيمة لها، أفترضُ أن بيننا نحن ذوي الدم الأحمر من يتوهم أن دماءه زرقاء لمجرد أنه يسترخصُ دماً سورياً، أو يغض الطرف عن هدرهِ مأخوذاً بضعفه أو مواربته، أو عجزه عن إدانة القاتل.


أن تكون ضحية داعش، تلك فرصة لأن تنالَ شهرة كبيرة. لم تطلني يد داعش لأمر أجهله، وربما يتربصني قدرٌ بأن تقتلني داعش الصفراء بحجة أنني داعشي طالما كنتُ عربي العرق وضد النظام، ومطلوباً للتصفية من جبل قنديل معقل حزب العمال الكردستاني. محاولةُ قتلٍ فاشلة منذ أسبوع، ثم تهديد وصلني ممن كان صديقَ الأمس وعدو اليوم حسب رسالته، هو كرديٌ جميل لكن دماغه المغسولة بلعابِ مليشيا حزب العمال السائل النازعِ للسطوة، أصبحَ منتشياً بحمل السلاح، والقدرة على السيطرة وإزاحة كل ما يخالفه من عرب وكرد طيبين وأبرياء  


لاتزال كل الحروب ضد جهةٍ واحدة هي داعش، حتى بدت رؤيتنا في النظر لأعدائنا كثوارٍ سوريين، متطابقة إلى حد ما مع مايطرحه الإعلام العالمي في حربه على أهدافه المنتقاة بدقة، ونحن في بعضٍ منا مطبلوه ومزمروه، حاشيته، كهنته، وسحرته من مثقفين وساسة ورجالات سلاح. يقيني أن خلف كل رصاصة تطلق كلمة وشعار ووشاية وتحريض لتكريسِ حالٍ ما، أو إقصاء فكرة في طريقها لأن تجمع بين كائنات لها نزوعها الحميم نحو هدفٍ نبيل، لا بد من نقض انتقائيتنا المنفعلة، والجميلة بآن فيمن نبكيهم، كي نحوّل الفقد لحالة دافعة لطرح فكرة تآزرٌ وتوَاشُج، وتشكيل موقفٍ مستقر لنبذ كل ذهنية انتهازية تستغل الحرب ضد الإرهاب لتكرس إقصاءاً مولداً لسلسة حروب تشتعلُ بين الأخوة الأعداء، فأن تحاربَ الإرهاب لا ينفي أن تكون إرهابياً في الاتجاه الآخر، وهذه سيرة العراق منذ ثلاثة عشر عاماً تشهد.


إن البكاء ليس إلا صورة مخففة عن ندب لا نريده، ليس بروفايلاً، أو صورة سرعان ما تأخذ حصتها من احتفائنا بدموعنا، لنتحسس إنسانيتنا ونحصنها من الضمور ورتابة الحياة وتدجينها لنا، ومن بلادتنا تلك التي نخافُ أن تتحول إلى شعارٍ ننام تحت خيمته، بدلاً من منهج عمل ومشروع قابل للاشتغال عليه أرواحاً وعقولاً. ولي أن أتساءل عن مغتربينا في دول الشتات، عن انفجار اسطنبول التي تقطنها أكبر كتلة مدنية نزحت من سوريا، لماذا لم أجد بينهم من رفع علم تركيا، إن مقارنةً كهذه تستدعي أن نقرأ أثر العصا والجزرة الخفيتين للإعلام وآلته وسطوة القوى الخفية والمناخ العام الذي تصنعه، أقول ذلك أنا المثقل بعقم شرقنا المستلب وأصرخ: ارفع علمَ بلادِك، وأنا أرفعُ قلبي راية.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +