الضحية المتفوقة وهلوسات الجوع

الضحية المتفوقة وهلوسات الجوع

مع خروج العنف من شرنقته الرمزية في الأسرة والمدرسة والعمل والحكومة وغيرها، بوصفه وصايةً تشكل أساس العلاقة الهرمية بين الأفراد المكونين لهذه الأنساق، تاركاً كدمات الربوبية المفرطة في معايير ضحاياه، هذه الربوبية التي قوّضت حتى اللغة/ترميز الإنسان لعالمه الخارجي وقناة التواصل معه، «رب الأسرة، رب العمل»، والتي تكسب شرعيتها من القسر الاجتماعي المفروض على كل مخالفٍ لناموسها بوصفه لا أخلاقياً «ابنٌ عاق، خائن»، حتى وصلت هذه الكدمات إلى حد التورم وخرجت من إطارها «الشرعي» لتدخل في جبهات القتال وتشكيل الميليشيات، مفككةً العنف الرمزي إلى مفرداته الأولية من دماء وتشويه وتنكيل دون لبسٍ أو مواربة.


في المقابل وجد الناجون من استلاب الغريزة الخام/القتل أنفُسَهم أمام مأزقٍ يتطلب منهم تطوير أدواتهم الرمزية بوصفهم ضحايا، وجزءاً من آلية العنف الرمزي الذي يصفه عالم الاجتماع الفرنسي «بيير بورديو» بأنه: «عنف ناعم خفي ومجهول من قبل ممارسيه وضحاياه في آن واحد، ويتمثل في اشتراك الضحية وجلادها في التصورات والمسلمات نفسها عن العالم».


ظهرت الضحية الذكية المتميزة بقدرتها على تسخير أولئك الذين لم يتطوروا من فصيلتها، وكما ساق الإنسان «أصلَه» القرد إلى السيرك للتسلية، شاركَ الجيل الجديد والمحدث من الضحايا في دماء أسلافه المعاصرين والمتباينين عنه مكانياً، شارك في دمائهم كونه المستهلك الرئيسي للمادة الإعلامية التي تسعى إلى إرضائه، وبالتالي رفع المروجون شروطهم التقنية لقبول الصور ومقاطع الفيديو المتواترة إليهم من «هناك» حيث الضحايا التقليديين، إذ لم تعد تشكل مجزرةٌ في غوطة دمشق، دوما مثلاً، أو مشهدُ قطع رؤوس جماعي ينفذها تنظيم داعش، فارقاً عن الاعتيادي اليومي يستحقُ المتابعة.


على الصورة أن تكون درامية أكثر كصورة إيلان الكردي على شواطئ تركيا، أو إحراق الطيار الأردني الكساسبة، أو أقل الإيمان وجود فضاء يحيل المشاهد في القرن الواحد والعشرين إلى العصور الوسطى كالإعدام الجماعي في مسرح تدمر الروماني، إحياءاً لما فاتنا مشاهدته قبل قرون طويلة.


ظهرت الضحية المتفوقة الأشد خبثاً من أعتى الطغاة، والمتقنةُ لدورها فطرياً أكثر من النموذج المثالي لصورة البطل الذي يسعى إلى جلد ذاته، فضلاً وليس أمراً، في سبيل الاستحواذ على المظلومية كاملةً له وحده، بما يضمنُ له مجداً شمولياً يختصرُ في صورته الشخصية مفهومَ البطولة، في صورة مطابقة للطاغية ومعاكسةً لها في الاتجاه، لكنها تنتج الأثر ذاته لأن الصراع على المكانة، وكلٌّ يجذب باتجاهه.


الضحية المتفوقة خلقت وجهها في مزجٍ بين الصورتين، إذ يكفي أن تكون خارج المناطق المحاصرة في سوريا والمستهدفة عسكرياً، حتى تشارك في تصميم أكثر المجازر دمويةً وبيدين نظيفتين، ثم تبكي مِلأَ قلبك حتى يقرّ لك الضمير بالبراءة، لكنك «أصدق» من ذلك ولا تغفر خطاياك، وتفضّلُ جلد الذات قصاصاً عادلاً للتطهر من الدناسة.


آمل أنني لا أهذر، أو بالأحرى كنت آمل أنني أهذر لولا قراءتي لبعض النقاد حول فيلم «حب في الحصار»، ولومهم عليه نوعية الموسيقى المستخدمة، وتكرار ما اعتبروه روتينياً من مشاهد.


الضحية الذكية المتفوقة تطالب بمعاناة أكثر بُهرجاً وجوعاً، أكثر ظرفاً ولذةً يسيل لعاب السهارى عليه، لم يكفِها وجود 100 ألف ممسوسٍ بشياطين الجوع هناك، لم يكفِها مصرع نحو 200 إنسان جوعاً حتى تم تصوير الفيلم.


لم يتمكن النقّاد الأكاديميين من مقاربة مشاهد المياه هنا إلى مشاهد التفجير في السينما عموماً، اللقطة الأولى هي اللقطة الأخيرة، المشهد الذي تُسكَبُ فيه المياه غير قابل للإعادة، لأنه قد يسرق فرصة عائلة كاملة بالنجاة بعد أيام، وكأنهم يقولون للنظام السوري ومعارضيه معاً، إن لم يكن لديكم سوى هذا الجوع الممل فستكسد بضاعتكم، نريد جوعاً أكثر ذعراً.


المشكلة أن الجوع لا يحتاج إلى شهادة جامعية حتى تدركه، الجوع لا يحتاج سوى وسطٍ كهذا حتى يلتهمنا جميعاً، بينما يصرّ الأكاديميون على نكران هلوسة الجوع التي طالت غريزتهم.


بحسب أندريه بازان فإن الواقعية الجديدة في السينما لا تصور واقعاً مكشوفاً، بل تسعى نحو واقعٍ غامضٍ لكشفه، الجمهور هنا هو الواقع الغامض في صورة الحصار التي يقع خارج إطارها، وهذا الفيلم لا يحيلنا سوى إلى أنفسنا، هذا الفيلم «العادي» الذي اعتقدنا أنه لنا الإرادة متى شئنا لمشاهدته، وضعَ عيناً سحرية لرصد جمهوره، وشاهدنا جميعاً جائعين لمعاناتهم أكثر فأكثر.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +