«البلاطاقة» الشخصية

«البلاطاقة» الشخصية

لا نملكُ حقيقةً كاملة، اعتدنا هذا القول، تنشطُ هذه الجملة كخليّة نحلٍ في الإعلام والمجالس العامة وحتى في وسائط النقل السريعة والبطيئة منها، ولا يتنبّه أحدنا إلى جوهر الجملة ومدى صحتها، بل صارت مثل قناعٍ نتلطّى خلفه إلى جانب الأقنعة الكثيرة التي تجعلنا نحافظ على أنفسنا أحياء، إذ لكل موقف قناع كما لو أننا نقول لكل مقام مقال أو لكلَّ حاجزٍ ولكل لحية، أو لكلِّ نوع سلاح طريقة في الظهور أو في إبراز الهوية. لا يوجدُ هنا تشظي هويات أو كسرٌ كطريقة احتجاج حضارية على بطاقة بلاستيكية صلبة تمنحها لك سلطة في وقت ما، ثم جاء وقت أنْ تبدلَّ البلاستيكية تلك بأخرىَ تتجاوزها إلىَ الهوية، الهوية التي يتقاتل عليها الشجعان والجبناء والرجال وأنصاف الرجال، وهي التي يمكن القول عن مجموعها «هويات قاتلة» أو صراع وجود من عدمهِ. لا نملك الحقيقة أصلاً، ضياع الهوية يعني الحقيقة بشكل أو بآخر، حتى الجملة المبطنة والمتواطئة لسهولتها في امتصاص صدمة الآخر كأن يكون محاوراً أو خصماً، حين تأتي مخففة ومتخلصة من روحِ الصِدام فهي تمارس عهراً وتخفي عينيها الشهوانيتين ووجهها وشبقها خلف قناع كأن يكونَ العفةَ، الأصح القول: «الحقيقة» بلا مضاف إليها أو بما يخبرُ عنها، القولُ عنها: كاملة هو تماماً القول: ناقصة أو منقوصة أو منتهكة أو مفجّر فيها وبها!.


في دائرة الأحوال الشخصية اسمكَ وصورتك، يمنحك الموظف «بطاقتك الشخصية» التعريفية، هو يسميها كذلك، وكذلكَ رجل الأمن والحراس من العسكر، وفيهم الأميُّ يكتفي بشكل قطعة البلاستيكة وشكلك المطبوع عليها، وغالباً لرداءةِ الصورة تكاد أن تشبهَ أحداً غيركَ كأن يكون أخوك أو أبوك وحتى أمك، المهم أن لكَ حصتكَ من البلاستيك المقوىّ والأرقامِ «الوطنية»، لا أدري إن كان هذا الرقم يبدأ بأصفار أم أنّهُ ينتهي بها؟ المهم أنَّ الأصفار لها دلالة على حامليها، فإن لم يكونوا أصفاراً فهم أرقامٌ، يتبدىّ هذا في السجونِ الصغيرة فيما لو اعتبرنا البلد السجنَ الأكبرَ والأكثر استيعاباً للأرقام: لا اسم للسجين، يُنادى عليه ب 5634 أو 1238769 أو 7،  وفي حال التعداد يقال عن مجموع السجناء: راس، وفي ذلك دلالة أخرى ففي حال قطيعِ الخراف يخبرُ الراعي عن عدد قطيعه ليس بكذا خروف وإنما بكذا رأس، تحويل الإنسان إلى خروف يفوق التشييء، ذلكَ أنَّ الخرفان تُعرَّف بالطرف القوي الذي هو الذئب، مما يكثّف الإشارة هنا إلى جبنه، وفي مقابلتهِ بإنسانٍ ضعيفٍ مستلَب الحرية، سنجدُ حجمَ القطيع الكبير الذي هو نحن أمام حجمِ القطيع الصغير من الذئاب الذي هو هم. ردُّ الإنسان إلى الضعيف هو إرجاعه إلى حيوانيته، فإما أن تتكفل طبيعته بإدارة شؤونه أو تكون قوة جبرية تتكفّل به وهو ما يتم العملُ به، جبره وقسره وإيداعهُ الأقفاص بدلاً من الغابات والكهوف والمغاور. الحقيقة هنا وليست في مكان آخر: تشييء «المواطن» لتدلَّ عليه «بطاقته»، وهي نفسها التي يُستدّل بها على الجثة لنقلِ بقية الإنسان الذي يُسلّم إلى ذويه مع زوج أحذية وألبسة مهترئة، أو بلا شيءٍ فهو نفسه صار شيئاً فحسب!


الإنسانُ الذي صار شيئاً بعدَ أن كانَ رقماً «وطنياً» وحدهُ من يُسميها «هوية» ويدافعُ عنها بوصفها مُعرِّفة له أمامَ السلطات، ويحدثُ أن تكونَ الأسماء هنا غير الحقيقية في الشارع أو البيت أو مع الزوجة والأولاد، وهذا قناعٌ آخر بالتأكيد، مما يجعلُ مقولة «الحقيقة غير منقوصة» منسوفةٌ من أساسها ولا جذر لها، ويصبحُ مشكوكاً بالهوية أو جملةِ الهويات المتصارعة للبقاء ضمن الحد الأدنى خارج حالةِ القطيع والأشياء، وقريباً من الإنسان الذي كنا عليه قبل أن تفتكَ بنا الذئاب الغريبة، التي جاءت غريبة وستذهب غريبة.


لا أحدَ في ذلكَ البلد الذي تحفًّ به النارُ من ستِّ جهات يُميزُ«الهوية الوطنية» من «البطاقةِ الشخصية» إلاَّ حينَ يكونُ خارجَهُ!!

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +