خمس سنوات يا الله

خمس سنوات يا الله

٢٥ يناير مرت من هنا


دعكَ من اكتئابي الذي يهبطُ على كمنطادٍ كريه وقل لي؟ بم تذكرك يناير؟ كيف ترى سُعار الأمن ونُباح العسكر في الشوارع؟ يغنى الشيخ إمام «لما تهل البشاير من يناير كل عام»، يمر عامًا بعد عام، تستيقظ الكلاب مبكرًا عن موعدها، تٌلملم الثورة من الشوارع ولا تُسكتها في القلوب.


خمسة أعوام تمر، أطالع صورنا في الميدان، كنا أطفالًا وصرنا كهولًا، لقد أرهقنا ذلك كله، اليأس الكثير والأمل الأقل واللامبالاة بينهما، والمشاوير الطويلة من البيوت للسجون، وطوابير انتظار الأحبة على أبواب المعتقلات يحلمون بنظرةٍ من سجين راحَ ضحية صدقه.


لقد أنهكَنا ذلك كله، لم يعد في القلب متسعٌ لمعارك جديدة بأمعاء خاوية، يقاوم الفقراء البرد، ينكسون رؤوسنا، نصمت لأجلهم، يذلنا الجنرال يوميًا بموقعنا على الخريطة. «سوريا والعراق»، تلك الأسطوانة الملحمية الفارغة التي صارت من فرط تكرارها لا تصيبنا بأي فزع، سقطت العراق وتتمزق سوريا، تتقطع قلوبنا لأجل السوريين الذين ملأوا علينا حياتنا في القاهرة، ولكننا لن نتوقف عن النظر إلى الأمام في خريطة العالم المتسع للجميع، لأرباب الأمل كما لضحايا ويلات الحروب. والجنرالات لا يرون إلا أسفل سيقانهم، عيون الجنرالات المدببة لا تصل إلى ما بعد المحيط، تغلق العيون أوتوماتيكيًا كلما لمحت صور البلاد الحرة والأوطان الشاهقة، عيون الجنرالات الحادة لا تعمل إلا ضدنا، تراقب بدأب أفعالنا لتحذر العامة من مخاطر الثورات الصبيانية.


لسنا صبيانًا ولم نكن، لقد أنهكَنا ذلك كله، خمس سنوات من فقدان الأمل كفيلة بإنبات الشعر الأبيض في لحى البالغين الجدد، خمس سنوات من تجرّع كؤوس الهزيمة تُسقط شعور الفتيات الناعمة تحت أقدام الجنود الشرهة.


خمس سَنَوات، كبر فيها من كبر وصغر فيها من صغر. الاختبارات الحقيقية وحدها تغربل الرجال، ينجو الصادق بنفسه ويسقط الأشباه في فخاخ المصلحة، يستقبلهم القتلة بترحابٍ كبير، معسكراتنا تتضاءل، يبقى فيها الصامدون معًا، لسنا قلة ولكنهم كيوم حُنين إذ أعجبتهم كثرتهم، يهرب الهر منهم إلى أول قطعة لحم في يد المنتصر، ويتمسك بالحق من يقبض على الجمر.


خمس سنوات تبدّلت فيها الوجوه، حتى الشهداء صاروا ترابًا، وابيضت صورهم في الشوارع بطلاء الأمن الأنيق، يبيّضُ الحوائط ولا يمحي الذكرى من القلوب ولا الأعين.


خمس سنوات، القتلة أحرارٌ يملئون كروشهم المتدلية بدماء الغد، لا غد لنا في هذه الأرض، يفر النابغ منا إلا بلاد جليدية محايدة تأخذ شبابه وتعطيه حقًا وحرية، ونحن بين هذه الأسوار الهائلة نلوّح لهم بأيدينا من بعيد، نطلبُ النجاة وينشدون الدعاء، الطيور المهاجرة لا تنسى أعشاشها الأصلية، وأخوتنا لا يتنصلون من لونٍ ولا جنسية.


في هذه الأيام الباهتة نفكر في حرب الكواكب، تعجز الحلول الأرضية عن إنقاذنا، في السماء رحبٌ وسِعَة، وفى مصر زنازين تقاوم كالفراعنة، لا تتأثر بعوامل التعرية ولا تعنيها ثورات تهب وحكام تُسجن وأخرى تُسرح، الزنازين صامدة مثلنا، نهاجم القمع فتقتنص حريتنا، معركة نَفَسٍ طويل بيننا لا ينهيها إلا حل إلهي.


خمس سنوات يا الله، نمني أنفسنا بالأمنيات نفسها، نحاول أن نصبر كل يوم علّك تعدنا بغد جديد، خمس سنوات يا الله شككنا أنك هنا من فرط ما اعتدنا لا مبالاتك نحونا، لماذا لا يموت القتلة يا الله؟ لماذا تستعذبُ سحقنا تحت أقدام الأغبياء وعديمي الخيال؟


خمس سنوات يا الله، نعرف أنك هنا، ستتدخل في لحظة مناسبة، نخشى أن تمد يديك وتسحبها سريعًا، فتصير كل أيامنا يناير وكل أحلامنا كوابيسًا تشبه ما بعدها.


خمس سنوات على الحلم، ٢٥ يناير مرّت من هنا بسهم كيوبيد الخارق، نفذت إلى قلوبنا وتركتها مثقوبة تنزف دمًا وها نحن ننتظر.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +