25 أملاً

25 أملاً

مجموعةٌ من الأشقاء العرب يفترشون المرج الأخضر أمام الشاشة الكبيرة للمقهى البحري كسينما الهواء الطلق، وهرمنا، وبن علي هرب، والدموع تملأ المآقي، فما كان مني سوى أن رفعت يدي بالدعاء «العادة التي لم أمارسها منذ زمن» واغرورقت عيناي بالدموع، ووجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض على شاطئ القرم في مدينة مسقط المهذبة قائلاً: «يا رب مصر.. يا إله العرش.. مص.. ببوس إيدين الأنبيا.. مصر».


وبعد أن تلقيتُ سيل السخرية المعتاد من الأحلام الوردية، واريتُ أُدعيتي وأحلامي مُطرِقاً في كيس الهزائم الذكي «موبايلي العزيز».


يسخرُ الجميع من هيكل ومنك عندما تذكر كلمة القوة الناعمة المصرية، والتي يستخدمها المصريون في كل شيء ويخفونها من الوجود عمداً عندما تتطلب منهم الأوضاع استخدامها حقاً.


واندلعت 25 يناير،  لتمتلئ مصر كما لو فجأةً بالقديسين والشهداء والأبطال والأمل.


تعني الثورة المصرية التي عرفتها عن بعد، وعشتُ آثارها فيما بعد، أن يقول مدرس اللغة العربية السبعيني «دانا خدت عيالي وعيال عيالي الانتخابات حمّلتهم في العربية وطرت بيهم على اللجنة»، وتعني الثورة المصرية أن يقول فنان تشكيلي وقاصٌ سكندري «كان لا بد من إخراج عناصر الشرطة من السيارات الكبيرة التي أقفلها عليهم الضباط لنحرقهم، ولكن على مين يا شاطر؟». أن يسأل عجوز كويتيٌ في المقهى تلك الفتاة الجميلة مقلداً اللهجة المصرية بسماجة: «إنت منين يا حلواية؟»، فتجيبه وكأن رصيدها في البنك تحول مليون دولار في لحظة: «من أم الدنيا يا خفيف». أن يقول المكوجي الفلولي: «إحنا اللي عملنا الثورة»، وجاري الإخواني: «إحنا اللي عملنا الثورة»، وصديقي الشاعر: «إحنا اللي عملنا الثورة»، أن يقول الشرطي مطأطأ رأسه لمواطن: «طيب يا أستاذ وهي الثورة يعني إن حضرتك أسألك على الرخص تقوم تشتمني، مش هي دي 25 يناير»، أن تقول فنانة تشكيلية سكندرية أخرى: «كنت بخرج في الـ18 يوم من بيتي ما عيش فلوس وبرجع شبعانة»، تعني الثورة المصرية أن يصبح لمصر الحقيقية صوت يعلو فوق صوت المعارك والزعماء والأُجراء ورجال الأعمال وفناني السلطة المتكلسين.


لا بد في كل ذكرى لثورة 25 يناير أن أتذكر مع أصدقائي كضيوفٍ على مصر حينها إحياءنا تلك الذكرى العظيمة في مكتب محمد هاشم في دار ميريت في القاهرة، سوريَيْن وفلسطيني وإماراتية دخلنا لنرى مصر بعميانها ومثقفيها ورساميها ومشايخها وتجارها وحشاشيها وسكّيريها ومغنييها وشبابها وبناتها وممثليها وممثلاتها يحتفلون بذكرى الثورة، كنتُ وأصدقائي ننظر في صندوق الدنيا هذا غير مصدقين ما يحصل حولنا، كان وزن كل شخص منهم على الأرض يبلغ مدينة، وفي عيني كل منهم أهراماتٌ من الفخر، وكان الأمل الذي يبثونه في قلوبنا والأغاني التي غنوها لسوريا والإيمان المطلق بانتصار الخير أشبه بمسلسل درامي ثمانيني، وكان جميع الحضور يتكلمون على اختلاف مشاربهم لغة «زينهم السماحي» في ليالي الحلمية كلٌ بأسلوبه، وعندما خطب أحدهم عن الغازات المسيلة للدموع في الشارع علّق صديقي أنها بردٌ وسلامٌ مقابل ما يحصل في سوريا، ليقول له الممثل أحمد عبد العزيز ليكتمل جو الثمانينيات تماماً: «الله هي الكعكة في إيد الفقير عجبة، أهو غازنا برضو ومننا وعلينا».


تغلغلت في أذهاننا صغاراً تلك المشاهد التلفزيونية عن المظاهرات ضد الاحتلال وهتافات «نموت نموت وتحيا مصر»، وأدركنا في مقتبل العمر رداءة المعالجة الدرامية، والميلودرامية الشديدة والكليشيهات المكررة في مثل هذه المشاهد، وكفرنا مكرهين بالبلاد التي قد نموت لأجلها دون أن تفكر حقاً في أن تحيا بشكل طبيعي كأي حيٍ يحترم نفسه، ولكن 25 يناير كحّلت عيوننا وعيونهم ونطقت بلغة بهية زلزلت العالم: «ارفع رأسك يا أخي»، وفقط دون أي إضافات إيديولوجية، وأظنُ الثورة لو كان لها فمٌ يهتف لقالت: «ارفع رأسك يا أخي ومتنزلوش تاني».


يبقى أن أشيرَ أنه في غضون سنة واحدة، وفي الذكرى التالية للثورة، مرّت الجموع بجانب كلية الهندسة في الاسكندرية تصدح بصوت يزلزل الكون: «قولوا للزابط الكلب وسيدو... بكرة الثورة تقطع إيدو».

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +