الدومينو والزوايا الحادة

الدومينو والزوايا الحادة

أُعلِنتْ «دولة إسرائيل» عام 1948 كأول كيان اجتماعي سياسي «دولة»على أساس ديني «اليهودية» في العصر الحديث، تلاها مباشرة تقسيم الهند على أسسٍ دينية مذهبية ونشأت دولة باكستان «الإسلامية». هاتان الدولتان غدت كل منهما محوراً تتركز حوله جميع متطلبات السياسة والاجتماع في الشرقين الأدنى والأوسط، وبالتالي تعميم نموذج الدولة ونظام الحكم الشمولي المستبد بالمزاوجة بين شرعيتين، راديكالية شعبية رافقت عملية الاستقلال، وأصولية دينية تصدر مشروعيتها عن حق إلهي يكفله الدين.


نموذج الدولة هذا جرى تكريسه بوصفه الشكل الأكثر نجاحاً وملاءمة في أعقاب انحسار موجة الاستعمار بشكله القديم، وتمّ تعميمه كطموحٍ تجب محاكاته ومحاولة تقليده من قبل مجموعات قبلية وعشائرية متناغمة مع شعبوية سياسية «القومية والاشتراكية ومذاهب السياسة والاجتماع الغربية» تنطحت لقيادة الكيانات الناشئة محققةً  نجاحها بإنتاج نظام الطوائف وحكم العائلة، التي ارتهنت ورهنت بلدانها بالكامل للغرب القوي القادر على حمايتها مقابل مصالحه.


هكذا تمت مذهبَة السياسة وتطييف السلطة، الأمرُ الذي أنتج تركيبةً حاكمة مستبدة معقدة ومرتبطة بالخارج، تناقضت كلياً مع طبيعة ومتطلبات العصر الاقتصادية والثقافية للمجتمعات التي كان لابد لها أن تعي هذا التناقض، وتعمل على ترجمةٍ عملية لهذا الوعي، حيث وجدت نفسها أمام معادلة معقدة مثلثة الأطراف تتعاكس في الاتجاه وتتمفصل في الأهداف. نظامٌ يحكم و يعمل لتأبيد سلطته ووأدِ كل ما من شأنه المساس بها، وأصولية دينية تمثّل الحاكمية الإلهية بدولة الخلافة، والخارج بامتياز القدرة على فرض مصالحه، مما يفسر العنف المدمر الذي رافق عملية التغيير، وحرف الحراك عن مساره بتمثيله مصالح غريبة، قد لا تتقاطع بالضرورة مع هدف التغيير والخلاص من الطغيان وبناء الدولة المدنية الحديثة.


التغيير ثورة، والثورة عملية طويلة وشائكة لا دروب معبدة أمامها، سيرورة تتحصل عن مقدماتٍ متداخلة ومتفاعلة. حركة تتطور على مدار الوقت تبدأ ولا تنتهي، الثورة لا تخرج من بطون الكتب والمجلدات، والنظرياتُ لا تصنع الثورة، هي حدثٌ بِكْرٌ قائم بذاته لا يشبه سلفاً ولا يتبع خطاً أو جدول أعمال، حراكٌ مستمر غير محسوب سلفاً، لا يمكن لها أن تفشل بحكم أنها حدثت فقط.


ما جرى ويجري في المنطقة هو حركة عامة شاملة تطال كل البنى والمفاهيم والنُظُم، ثورةٌ تشمل الإقليم برمته نتجت عن واقع موضوعي مشترك منفعل بمقدمات وبُنى متمفصلة موحدة المنشأ والمآل، مجتمعاتٌ تتقاسم ذات المشاكل وتتوحد في مواجهتها، في اليمن وليبيا ومصر وسوريا والعراق، وما سيتلوها من مساحات جغرافية وتسميات وملوك وعوائل ومافيات.


عندما حدد «الرئيس السوري» ومنذ بداية الثورة مهمة نظامه على الملأ  بقوله: «سنوقف حركة الدومينو»، كان يعي ويعني ما يقول، وهي لم تكن ومنذ ذلك الوقت مهمته وحده، بل هي مهمة الجميع في كل الإقليم حتى وسط آسيا من أنظمة وحكومات وبنىً اقتصادية مالية وجيوش وأجهزة قمع وملحقاتها. هم جادون في مواجهة الخطر المُحدِقِ بهم، ويعملون على قطع وإيقاف تساقط أحجار الدومينو.


الحدث السوري كان الأهم والأعنف، وُظِّفَت فيه وله إمكانيات كبيرة، وتعددت وتداخلت فيه المصالح بحيث غدا المفصلَ الحاسم الذي سيحدد مستقبل المنطقة، وتتوقف عليه مصائر الأنظمة ومآلات الثروة والأفكار والقوى عربياً وإقليمياً. التوظيف الإعلامي، ومن ورائه القوى صاحبة المصلحة تعيد تلخيص أهم حدثٍ في تاريخ المنطقة بعبارة واحدة هي: هل يكون الأسد جزءاً من مستقبل سوريا؟ وينقسمون مسرحياً بين داعمٍ ورافض لذلك، وتكثيف الحراك ومساراته بمقاسٍ شخصٍ واحد في إسفافٍ وتسخيفٍ لأهداف الحراك وغايته، ولم يعد هناك من يتحدث عن شكل الدولة المأمولة ونظامها الديمقراطي ودستورها الضامن لحقوق المواطنة المنبثق عن هيأة تأسيسية يتمثل فيها الجميع وفق رؤية واضحة ملتزمة واعية لمصالح الوطن والشعب، والمكفول بقوة القانون الذي يحترم الدستور، ويحترمه المواطن كحارس وضامن لمصالحه في الحياة الحرة الكريمة.


المملكة العربية مستعدةٌ لإعدام نصف سكان الكوكب إن تجرأوا ونالوا من الذات الملكية، وهذا حقٌ مطلق تكفله الشرعية الدولية، والجمهورية الإسلامية تُعدِم ولا تُسأل بل ولا تعلن، وهي مستعدة لإحراق المحيط وإغراق اليابسة إن أصاب مكروه وكيلاً من الدرجة العشرين للولي الفقيه «صاحب الزمان» الذي ترعاه السياسة الدولية. لا أهمية لمن يُقْتَل وهو يمارس القتل فوق الأرض السورية لأن «مآله الجنة»، والسوريون المقتولون والمشردون لا أهمية لهم لأنهم لا يمجّدون السلطان، ولا يهللون ويسبحون للفقيه الولي،  و«مثواهم النار وبئس المصير».


يتساءل هيرودوت: «هل من الناس من يصدق أن الطرواديين يحاربون عشر سنوات من أجل امرأة واحدة»؟!

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +