أشجار الرقة لا تأوي إليها العصافير

أشجار الرقة لا تأوي إليها العصافير

الرقة التي تركتنا نقترف خطيئة العيش بعيداً عنها، صارت  حصّالة  خوف، «مطمورة». مليئة بكل أشكال الأسلحة الفتاكة، ليس أولها البندقية، ولا آخرها النفوس المفخخة بالفتاوى، والمتفجرات. فتحولت إلى مبتدأ لا أحد يعرف موقع خبره من الأحداث!! وما زال فُراتها مأخوذاً بتأليف ضفتيه، والناس في ظله تحتال على موتها، وتبتكر مبررات الحياة، علماً أن أجنحة أفراحهم قد سقطت منذ أول طلقة زغردت في عرس حريتها؛ وتحولنا إلى حيوانات أليفة، تقتادنا الفتاوى والأيديولوجيات إلى حضائرها!! أما أطفالها فقد تفرّغوا لإحصاء الغارات الجوية التي تسقط من شريط الأخبار، بعد أن فقدوا حقهم في متابعة حياتهم المدرسية، والبعضُ منهم  ناموا بعيداً عن أحلامهم، وتركوا لأمهاتهم وجعَ الأمومة عارياً، وكأن الجنة لم تجد مكاناً إلاّ تحت أقدام أمهاتنا!!


تلك هي قصة المدينة التي كانت تتسول الأحلام، ووجد فيها المتطرفون كنز أحلامهم، فأصبحت حكايةً وصرنا شهرزادها التي تنتظر الصباح، بطمأنينةٍ مصطنعة، وحزنٍ لم يجد البكاء الذي يحتويه. وما زلنا نحتفظ بمسودات أحلامنا، ومفاتيح الأبواب التي ضيّعت الجدران التي تتكىء عليها!! أمّا كتّابها الذين أخطأتهم القذائف، فقد أصابهم الشوق والحنين إصاباتٍ مباشرة، وصار كل واحد منهم يلزمه عمرٌ من بياضٍ إن وقع في مصيدة الكلمات، من حيث أن الكتابة هي علاجهم الوحيد للشفاء من مسقط أحلامهم الذي ضاع في أروقة المؤتمرات، وتحوّل إلى أغنية تبحث عن حنجرة ترتلها على سلم الحرب الموسيقي.


الرقة، تلك المدينة التي لم تتحصّن يوماً بالأبواب، تهاوى وهمُ انفاتحها بين يومٍ وليلة، وإذ بها مغلقةً في وجه أبنائها!! الرقة التي فقدتُ احتمالات الإياب منها، مشيتُ إليها حافيَ القلب، بحثاً عن حصتي من حزنها،  فسبقتني اللحى والفتاوى وراجمات الموت، وتركتني هناك في منتصف الطريق بين ذكرياتي وامتحان النسيان. رحتُ أبحث عن كلمات لا صوت لها، خشية أن تستيقظ  أسماء شوارعها من كتب التاريخ، إذ لا يمكن عبورها دون المرور بشارع سيف الدولة، وشارع المنصور.


هنا كانت «مكتبة الخابور» مراحُنا المسائي، نأخذ حصتنا اليومية من الصحف، نطّلع عليها دون أن نشتريها!! يقابلُ المكتبة في الطرف الآخر من الشارع «متحف الرقة»، وهو أحد المباني القليلة المتبقية من الفترة العثمانية، وقد استُخدم سابقا داراً للسرايا، وتحوّل إلى متحفٍ في 24 أكتوبر 1981. يتألفُ من طابقين، ويُقدَّر عدد القطع فيه بما لا يقل عن ثلاثة آلاف قطعة تم نهبها عن بكرة أبيها قبيل استيلاء داعش على المدينة!! في الحديقة الخلفية للمتحف، ثمة طفل سقط حذاؤه وهو يركض بسرعة الخوف، وطفلة نسيت ضحكتها وغادرت مع كثيرٍ من أقرانها إلى مراح نومهم الأبدي.


يفصل الشارع عن منطقة «رميلة» سور الرقة الأثري، وهو أحد المعالم العباسية الهامة، والذي تآكل بفعل الإهمال والعوامل الطبيعية. وقد قامت داعش بهدم أجزاء منه، لتفتح ممرات خاصة لآلياتها. خلفَ السور يمكنك مشاهدة آثار الرقة المعاصرة:  جدرانٌ تبكي عزلتها، شوارع قدّمت أوراق اعتمادها للنسيان، أحياء مصابة بالخراب، أعمدة هاتف ممددة على عرض الطريق، نسوة يلتحفن السواد، رجال رسمَ اليأس ملامحهم، حيطان مثقلة بالنعوات، وموتٌ يمشي عارياً، والعالم يغض بصره. يستوقفني شاب في مقتبل العمر، يسلّم علي ّ بحرارة، وحين يرى دهشتي، يسارعُ إلى تقديم نفسه لي: أنا أحمد، كنتُ طالباً في «مدرسة الكمان» ألا تذكرني؟ فتعودُ بي الذاكرة إلى عام 2008، حينها كنت مديراً لتلك المدرسة الموسيقية المختصة بتعليم الأطفال العزف على آلة الكمان، فاستعدتُ بحضوره تلك الذكريات وسألتُه إن كان ما يزال يعزف على تلك الآلة، فأخبرني هامساً، أن الموسيقا أصبحت من المحرمات، قالها وهو ينظر يمنةً ويسرى. سألتُه عن الطلاب الذين ما زالت ذاكرتي تحتفظ بأسمائهم، فأخبرني أن بعضاً منهم غادروا، وبعضهم الآخر ما يزال في الرقة، وأن حياتهم أصبحت أبعد ما تكون عن الموسيقا.


أمام حديقة الرشيد، وقفتُ مليّاً أمام قاعدة تمثال الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي تدحرج بين أقدام المسلحين، ذات أربعاء من عام 2013. على يميني كان المجمّع الحكومي بطوابقه الخمسة، أو ما بقي منه، وعلى شمالي ما بقي من كنيسة السيدة، التي أصبحت مقراً للمكتب الدعوي لتنظيم الدولة، أما سكان الرقة من المسيحيين، فإن حالهم حال بقية السكان، القسمُ الأعظم منهم غادر سوريا. في تمام الساعة الرابعة خوفاً، عدتُ إلى حقيبتي، رتبتُ فيها الحزن المؤجل، وما بقي من أسماء الأصدقاء، وقفلتُ راجعاً إلى برد المنافي.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +